إنّ أبرز فوائد القراءة أنّها تُطلعنا على ثقافاتٍ وبيئاتٍ كثيرة ومتنوّعة قد لانصل إليها أو نتعرّف بها خلال حياتنا إلا إذا كان ذلك من خلال الكتب، وهذا ينطبق على رواية “مملكة هذا العالم” للروائي الفرنسي الكوبي “آلخو كاربنتييه” الذي يعود الفضل في تعريفنا بأدبه إلى “دار سرد وممدوح عدوان” التي قدّمت إلى المكتبة العربية ثلاثاً من أعماله التي لم يسبق لدار نشرٍ عربية أن نشرتها أو حملت على كاهلها عبء تقديم الأدب الكوبي إلى مائدة القارى العربي الجاهل “نسبيّاً” بذاك الأدب البعيد. وقد قرأت الرواية في جلسةٍ واحدة وسجّلت حولها النقاط التعريفية الآتية:
تنتمي الرواية إلى أدب الواقعية السحرية إلا أنها تُغرق في سحريتها حتى كدت عدّها رواية سوريالية، والواقع أن هذا الميل الروائي منتشرٌ جداً في الأدب اللاتيني وسنجده كثيراً عند شيوخ الصنعة أمثال اسكيبيل واليزابيل الليندي وماركيز، وشخصيّاً كان أول عهدي بهذا الجنس الأدبي في ثمانينيات القرن الماضي عندما قرأتُ قصةً مترجمة “للويس خورخي بورخيس” نشرتها آنذاك مجلة العربي الكويتيّة، ومنذ ذاك الحين وأنا أتحرّى ترجمات هذا الأدب القادم من الطرف الآخر من العالم.
تبدأ أحداث الرواية عندما اشترى السيد “لو نورمان دو مِزي” حصاناً فحلاً محجّلاً لخادمه “تي نويل” وهي بدايةٌ تبشّر بخير إذ سيظنّ القارئ أن الظروف المعيشية التي يحياها الخدم / العبيد في بيئة أحداث الرواية (وهي هاييتي وأطرافاً من الجزر الكوبية) هي ظروفٌ جيدة مقارنةً بنظرائهم في بقية الأرخبيل، لكن القارئ سيكتشف أنها مجرد بداية مخادعة تعمّدها الكاتب وترك وراءها أحداثاً مذهلة حول ظلم العبيد والتشفّي بالانتقام منهم لوأد فكرة التحرر من أذهانهم قبل أن تبلغ مرحلة النضوج.
بطل الرواية “ماكندال” الذي تُقطع يده رحى مزرعة القصب، وعقب هذه الاصابة يعهد إليه سيّده الأبيض رعاية قطيع الأبقار، لكنّه لايلبث أن يهرب ويستيقظ في وجدانه اهتمامٌ جارفٌ بالانتقام من طبقة النبلاء وإقامة امبراطورية للزنوج الأحرار يحكمها بينهم بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم.
تبدأ رحلة البحث عن “ماكندال” الهارب وينبري السادة وأعوانهم في صبّ جام غضبهم على العبيد المساكين للإخبار عن مكان العبد الآبق من سيّده، فيفتّشون عنه في السهوب والأيكات والمقاصب والغابات دون أن يجدوا له أثراً أو يسمعوا منه نأمة، خلال ذلك تصيبهم فواجعٌ مُتلاحقة من انتشار السموم ونفوق الأنعام، فيقع رأيهم على أنّ هذه المهالك هي نتيجة عملٍ سحريٍّ أعدّها لهم الزنجي الأقطع على سبيل الثأر والاقتصاص؛ مايزيدهم غضباً وحرصاً على القبض عليه.
في مجرى الرواية سيُلقى القبض على “ماكندال” وسيُحرق أمام جموع الهنود من أتباعه ليكون لهم درساً وعبرة، لكنها ليست نهاية الرواية؛ بل هي بداية جديدة لأحداثٍ أكثر تشويقاً وغموضاً أترك كشف كنهها للقارئ.
يتمّلك السرد السريع بنية العمل بشكلٍ كلّي، مع إغفالٍ واضحٍ للحوار، والتركيز على إدهاش القارئ من خلال التفاصيل الصغيرة التي قد لاتفيد العمل في مجرى الأحداث لكنها تشرح البيئة، وتضع القارئ في جوّ الرواية، وتزيد من هالة السحر والطرافة.
قلت في بداية المراجعة أن الفضل يعود في تعريفنا بأعمال “كاربنتييه” إلى “دار سرد وممدوح عدوان”، وهذا حق، إذ قدّمت الدار حتى الآن ثلاثاً من أعماله هي: الوتر والظل، أسلوب المنهج، وهذه الرواية. وللإنصاف فإن “دار ورد” قدمت أيضاً هذه الرواية بترجمة الأستاذ الخبير “محمد علي اليوسفي”، وقد اطلعت عليها إرضاءً لولعي بمقارنة الترجمات فأعجبتني ترجمة “علي ابراهيم أشقر” أكثر لأنّ “اليوسفي” بالغ في التنطّع اللغوي بما لا يتحمله سياق الرواية. كما قدّمت “دار المأمون” ترجمةً لرواية “الخطوات الضائعة” ولم تُتَح لي فرصة اقتنائها بعد.
صدرت الرواية عن دار سرد ، ودار ممدوح عدوان / سورية، وتقع في 134 صفحة من القطع المتوسط. وهي بالمجمل نوفيلا لطيفة غرائبيّة لاتشبه ما نقرأه عادةً.
مملكة هذا العالم
الخو كاربنتييه
دار سرد وممدوح عدوان للنشر