" زيارة أخيرة لأم كلثوم"
في البداية يعتقد القارئ أن الرواية تدور حول كوكب الشرق، لكن الحقيقة أن أم كلثوم وهي من أعلام محافظة الدقهلية، تعيش داخل وجدان كل أهالي المنطقة، فاختيار أسم "أم كلثوم "كان موفقًًا، فهو يختصر حنين البطل إلى جذورة ومدينته " المنصورة"، ورحلة العودة إلى الأم والتي كانت في هذه الحالة هي " الخالة أم كلثوم".
ايضًا اختيار عودة البطل لجنازة خالته عوضًا أن تكون العودة مرتبطة بجنازة الأم، التي سبقت وفاتها وفاة الخالة بعدة أعوام، دلالة كبيرة على التشتت والحالة النفسية التي يعيشها البطل طوال السرد.
#المقاربات الثنائية:
نجد أن البطل يعاني من بعض الاضطرابات والتشوهات في علاقاته العائلية، وبرز الكاتب ذلك في مقارنات ومقاربات ثنائية ظهرة في عدة مواقف، منها: كما ذكرنا اختيار الحدث الرئيسي جنازة الخالة وليست الأم.
الحدث الفارق أيضًا في الرواية وهو مقتل السادات، وقد تتكرر في أكثر من موضع وكان البطل يعود إليه في أكثر من مرة، ومن هنا يمكن ربط ذلك بعلاقة البطل المشوهه بأبيه" من لم يحلم بقتل أباه"، وتمثلت في التشفي والغضب والحزن لموت رئيس دولة.
كما نجد أيضا أنه هناك أقتران في الذكريات الخاصة بين الأم والزوجة، تتوارد الصورة بدون وعي للربط السلوكي بينهما، كما في مشهد تربية الزوجة للحمام و تربية الأم للدواجن، في الحالتين لم يسأل الزوجة عن معنى كلمة "مييح" التي تنادي بها أزواج الحمام، كما لم يسأل والداته قديمًا لماذا تنادي دجاجاتها" عسل.. عسل".
#حتمية الاغتراب:
عانى البطل من الاغتراب الداخلي منذ طفولته، وحتى اغترابه عن عائلته ومدينته، رغم حياته العامرة وعائلته الكبيرة، إلا أن شعوره الداخلي بالغربة والوحدة كان ينمو بداخله كل يوم.
وهنا جاء دور صديقه طاهر، الذي اعتاد كتابة الرسائل إليه، وتم استخدام "تقنية الرسائل " بوفرة في الرواية ، لكن صديقه طاهر والذي جاء اختيار أسمه موفقًا للغاية، كان بمثابة الصديق المتخيل، أو ربما كان وجهًا آخر للبطل، شخصيته المزدوجة، يتشاطران الغربة والرحيل المتكرر، طاهر السوداني الذي درس بالقاهرة ومسافر بين أستراليا وأوروبا، وحسين الذي ولد بالمنصورة وعاش بالقاهرة دون أرتباط بالعاصمة الذي شكلت له مكانا للصراعات والنفاق.
#التنقلات السردية غير العادية:
جاءت بعض التنقلات السردية في الرواية مضطربة، ايضًا الخلط بين الهموم الشخصية والهم المجتمعي العام، مثلًا يبدأ حسين البطل بسرد مشهد ما ثم ينتقل إلي موقف آخر في زمن آخر، ثم يعود مرة أخرى إلى المشهد السابق، هنا وإن كان تم بشكل غير متعمد، دلالة كبيرة على الاضطراب النفسي الذي يعيشه البطل، ويوضع الهزة الواضحة في أعراض الهلاوس والاكتئاب، فهنا كانت نقلات سردية يكتبها بطل مضطرب فعلًا.
#الرواية التسجيلية:
في الرواية تأريخ للمكان، ليس تأريخيًا زمنيًا فقط، لكن تأريخ سياسي وثقافي للمنصورة، ورصد للتحولات التي طرأت على المدينة وشوارعها وسكانها، والخلخلة الثقافية والسياسية بها، وكانت عين الكاتب فوتوغرافية تصور للقارئ وتصف له المنصورة، فأهلها يشعرون دائما مع النص بالحنين البالغ، ومن لا يعرف المنصورة سيرى خريطة واضحة للمكان تصلح مرجعًا مكانيًا لأجيال متعافية.
كما أن الرؤية التسجيلية للبطل تظهر أيضًا في مشاهداته العديدة وغير العادية كما في مشهد الأسانسير وشعارات الأولتراس، ومشهد المترو وشعار السادات .
#خصوصية المكان:
كانت هناك الكثير من الجمل والعادات الخاصة بمجتمع الرواية، في الدقهلية يسمي الناس النيل " بالبحر" كما ذكر في النص، أيضًا الإيمان الجمعي بالخرافة، كما ورد ببحث الشخصيات عن الشيوخ حول المس وأذى الجن .
#تقنية الأحلام:
تمكن الكاتب من توظيف الأحلام في كشف ما بداخله، لنقل أن البطل كان يكشف لنا عن واقع ووعي لا ينتبه له هو، مثلًا في الأحلام الأخيرة كان يري نفسه فيها يفقد زوجته ويشعر بحزن وألم بالغ، وهذا دليل على تعلقه الشديد بزوجته ورعبه من فقدانها رغم أنه في واقعه اليومي لا ينتبه لذلك الحب، بل لا ينعم في رفقتها بالمحبة، وفي ذلك كما أشرنا سابقًا إلى تماس علاقته مع الزوجة بعلاقته بوالدته، لن يستغني عنها حتى وإن أدمن كلًا منهما تعذيب الآخر، كما في العلاقات الكارمية، ولو حتى أحب غيرها أو تزوج بأخري تظل الزوجة هي منطقة الأمان لديه.
#تقنية الكوموفلاچ والأرشيف الصحفي؛
وهذه من المرات النادرة، التي لا يؤثر فيها عمل الكاتب الصحفي على إبداعه، في الرواية احتفظ الكاتب بأسلوبه الشاعري، وطوع الأرشيف الصحفي في خدمة نصه، بربط بعض الأخبار والحوادث وحتى البوستات في خدمة النص، عن طريق القص واللزق.
وايضًا ذكره لبعض الكتاب مثل هاروكي موراكامي، نجيب محفوظ، إيزابيلا الليندي، ليزيد النص ثراءً معرفيًا.
في النهاية. رواية " زيارة أخيرة لأم كلثوم" نص سردي ثري ويتحمل التأويل المتعدد والقراءات العميقة والمغايرة .
هناء متولي