الرغبة في البقاء والعيش وقود انساني يبني ويهدم ويدافع ويفترس.
ولا حيلة للمهمشين في الأرض إلا أن يبحثوا عن مأوى ولو بوضع اليد، يتوسعوا فيه ويتغلغلوا ويتكاثروا ليخلقوا وطنًا هامشيًا مستقلا يدافعون عنه بأبدانهم وأسلحتهم حتى ينتزعوه من العالم انتزاعًا.
تنقل الرواية بؤرة جمعت المهمشين في عزبة خير الله فصاروا أصحاب مِلك بعد استرضاء الضبع وخلفاؤه، أمراء العزبة بتزكية البلطجة والفَتونة.
الفقر والبلطجة والجهل يجعل العزبة بعد ذلك مركزًا هامًا للمصالح السياسية والدينية، الباحثين عن الأصوات الانتخابية، السيطرة المذهبية، ومنظمات المستضعفين الدولية!
وخلال رصد ما يحدث في شوارع هذا البلد الذي يحكمه منطق القوة، يقترب الراوي أكثر من غرفة صالحين وإخوتها الأربعة. وكما تبث المسؤولية الشجاعة والجرأة في الفتيات، تشبثت صالحين بالحياة بالانتقال إلى العزبة، وتمسكت بالأمل الذي يتجسد في تعليم إخوتها ليصبحوا رجالا عليهم القيمة وتتبدل أحوالهم.
رغم بلاغتها وعذوبتها، لغة الرواية تتسق تماما والمكان والشخصيات. تدخل عالم الرواية بسلاسة وترى كل شيء واقعًا حقيقيًا وتلمس شعور الشخصيات ومخاوفهم ومعاركهم للبقاء. تقطع طريق المدرسة في توجس مع عليّ، تقطعه على بلطجية المعلم مع ناجي وتشق الحجر وتسافر بلاد القصار، تسعى للرزق مع صالحين في السوق وعلى شونة الخضار، تركض كالمجنون في الشوارع لتتقصى العلامات على البيوت حتى يخترق البنطوزر العزبة، ويشقها طريق علوي عريض يتجه إلى المستقبل تاركًا إياها في القاع.
أكثر ما أحببته في الرواية الشخصيات المدروسة بعناية، سماتها وطموحها، وقصصها الخلفية ليست بالبسيطة. لكل شخصية تفاصيل تجبرك على عدم نسيانها، تصرفاتهم وردود أفعالهم مع تتابع الأحداث منطقية متسقة حتى السطر الأخير.