تياترو ثرفنطيس
تأليف
نسيمة الرواي
(تأليف)
تشكل الذاكرة الخيط الناظم بين فصول العمل الأدبي الثاني من نوعه لابنة مدينة طنجة، نسيمة الراوي، الموسوم بـ”تياترو ثرفنطيس“، وذلك بشكل يتحول فيه استرجاع الماضي إلى وسيلة لمقاومة المحو وترميم الانكسارات؛ من جهة أن الساردة (أحلام)، كما جاء في تقديم أول عمل سردي لهذه المبدعة الشابة والواعدة، تلجأ إلى أسلوب التعرية لإزاحة الغموض عما يثقل الذاكرة، سواء الفردية أم الجماعية، فيما يتحول مسرح ثرفنطيس إلى رمز يضمر تناقضات الذات والمجتمع بما هي تناقضات تشكلت في سياق تحولات سياسية مست القيم والعلاقات الإنسانية.
وتطرح الرواية، الصادرة عن دار “العين للنشر والتوزيع“، في القاهرة، جملة من الثنائيات من قبيل الماضي والحاضر، الجنون والعقل، الوفاء والخيانة، الثبات والانهيار، ما عاشته الذات وما لم تعشه؛ وهي تناقضات نستخلصها من طبيعة الصراع الدائر على مدى فصول الرواية. لذلك، تقدم الرواية الساردة (أحلام) في طابعها الدرامي، فإذا هي فتاة تخرجت من الجامعة بعاهات في الروح والجسد، ومن مستشفى الأمراض العقلية بعاهات في الذاكرة، لتتخذ من الحكي وسيلة لإعادة بناء تاريخها الخاص وتاريخ المغرب الحديث، فيما يرمز صديقها مراد، لأحلام اليسار وانكساراتها وتحولها إلى النقيض.
ولقد صيغ هذا التاريخ الخاص الذي تجولت فيه الكاتبة ضمن امتداد عمراني هو طنجة، ذلك أن الرواية واكبت تحول المدينة ومعالمها، وكيف أن الرأسمالية استولت على المدينة وغيرت ملامحها، بينما انهارت المؤسسات الثقافية، فاختزلت الرواية تحولات المدينة في رمزية المسرح الآيل إلى السقوط.
يذكر أن الشاعرة والروائية المغربية نسيمة الراوي شاركت في ورشة البوكر بأبوظبي، وهي حاصلة على دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في التسويق والتجارة العالمية من المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير من جامعة عبدالمالك السعدي بطنجة.
..
من الرواية
لم أنتبه إلى بكائي إلا حينما مسح مراد دمعات تزحلقت فوق خدي بأطراف أصابعه، وليس بالمناشف كما تعود أن يفعل. كنت أبكي، وأقضم التفاح، أتحسس أصابعه. وكانت هي تجلس في الكرسي المقابل تقرأ رواية "For Bread Alone" أو "الخبز الحافي" لمحمد شكري. هادئة جدا كأنها في قطار آخر لا ترانا، وكأنها خارج المكان، وخارج الزمن، وخارج المشهد، وخارج الرواية لا تسمع أنين الخبز داخل الرواية، وخارج الرواية في الكرسيين المقابلين لها. أبكي، وأقضم التفاح، أتحسس أصابعه، وكانت هي تجلس في الكرسي المقابل محايدة، تشبه ذلك السارق اللطيف الذي يفرغ محتويات حقيبتك، ويتكرم بإرسال بطاقتك الوطنية، ووثائقك إلى عنوانك البريدي. كانت تتكرم على قلبي الذي سقط بمساحة حرة كي يتدحرج جيدا. أبكي، وأقضم التفاح، وأتحسس أصابعه، أراقب قلبي وهو يتدحرج، يتضاءل ليصير تفاحة فاسدة.
كيف تخرج الدموع من الذاكرة؟ كيف خرجت دموعي من القطار لتبلل قاعة السينما؟ أخرج كريم مناشف الكلينيكس من الجيب الداخلي لمعطفه، ومسح دموعي معتقدا أن بكائي شفقة على "أمين" صديق "يحيى الصياد" الذي سيضطر إلى إجراء عملية جراحية تفقده ذاكرته. هرب "أمين" من المستشفى بعد أن تمدد في غرفة العملية استعدادا لإجراء العملية، ظل يركض مرتديا بلوزة العمليات الزرقاء، يركض باتجاه باب المستشفى ثم باتجاه البحر، لحق به "يحيى" الذي كان ينتظره في قاعة الانتظار، نزع يحيى معطفه، وألبسه إياه.
- "أمين لو معملتش العملية هتموت يا أمين..
- لو عملت العملية، وفقدت الذاكرة، لو شفتك مش هعرفك..
مش هعرف حد يعني مش هبقى أنا هيبقى واحد ثاني اتولد من جديد بس مش أنا..
أمين لي عارفينو أنا وإنت حتى لو عاش بعد العملية بردوه هيموت..
هيبقى حد ثاني بنفس الشكل، ونفس الجسم بس من غير ذكريات".
وكأن أمين يتحدث بلسان طنجة التي صارت طنجة أخرى بعد سقوط "تياترو ثرفنطيس"، الأزقة هي هي لم تتغير، الشوارع منهمكة كعادتها تتلصص على المارين، البحر يعارك اليابسة، طنجة التي أعرفها هي هي تعشق هجنتها، ترفض التذكر. صديقي "كريم" يمرر منشفا ورقيا على خدي. المنشف متواطئ مع أصابع "مراد"، يفصل بين أصابع "كريم" وخدي، تاركا مساحة لأصابع "مراد" التي تخرج من الذاكرة. كما خرجت حكايا جدي و"لولا" من ذاكرتي لتلعن انهيار "ثياثرو ثرفنطيس"، ولتبعث برسائل ملعونة إلى بحار مجهول.