حورية هي حرنكش، وحرنكش هي المرأة التي خرجت من البلّاعة وهزمت الشيطان ووهبت الجمال للدنيا، هي المرأة التي عرفت كيف يمكن للإنسان بالصبر ومع الوقت أن يحوّل الديدان إلى حرير، أو إلى حكاية لا يمكن نسيانها.
حورية الأسطورة، حورية المشاءة، حورية الغلبانة المضحوك عليها، حورية مطلقة الرصاص القناصة البارعة، حورية التي ترسل طاقة الموت في كل اتجاه بحيث تصبح مركز شؤم يدمّر كل المقربين منها واحدًا بعد آخَر، حورية القاتلة والدرويشة وأخيرًا الأم النورانية التي تشعّ حكمة وسكينة وطمأنينة.
أظنّ أنَّ من أسباب حبّي لرواية الخروج من البلّاعة أكثر من رواية نساء الكرنتينا أنَّ البلّاعة هي رواية الشخصية الواحدة، أو الشخصية الرئيسية، مثل مدام بوفاري أو تاييس أو القبطان آهاب في موبي ديك. وأنا أساسًا أحب الشخصية الروائية، وربما هي عندي أهم عناصر اللعبة الروائية، وخصوصًا إن كانت شخصية لا يمكن نسيانها، وماما حرنكش من هذا النوع من غير أدنى شك.
يمكن أن نضيف إلى ذلك أنها رواية ثورة 25 يناير، وليست مجرد رواية عن الثورة، بمعنى أنّ الثورة هنا ليست موضوعًا أساسيًا وبالطبع ليست مجرد خلفية عامة تدور أمامها أحداث الحكاية الشخصية، لكن أحداث سنوات الثورة، أهم أحداثها المفصلية على الأقل بلا تفاصيل أو حوارات جانبية، حاضرة هنا حضورًا روائيًا، كمحرّك للأحداث ومشارك في الأحداث، يعني معجونة بالسرد بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وبالطبع لا يمكن تخيل حياة حرنكش بمعزل عن مجريات أحداث ثورة 2011 وما تلاها وحتى لفظ الإخوان شعبيًا واستبعادهم رسميًا من المشهد، ودخول حرنكش السجن.
حرنكش تحكي حكايتها، وإلى جانبها راوي عليم يريحها من هذا العناء في بعض الأحيان، لكن صوتها شبه صوته، أو صوته هو شبه صوتها، فكأن حرنكش تحولت إلى راوي عليم، أو الراوي يتبنى صوت حرنكش ليكون أقرب للحقيقة، أصدق وأرق وأعمق، أشد سودواية وسخرية وجبروتًا. كان يمكن أن تكون الرواية كلها بصوت حرنكش، في ظني كانت ستكون ألذ وربما أصعب، لكن لا بأس، ففي بعض المواضع كان على الراوي أن يميل لكفة التأمّل النظري ولو بدرجة طفيفة للغاية، كما في بداية الفصل الثالث والكلام عن مفردة التشاؤم في العربية والإنجليزية، وربطهما بظلالهما لدى العرب والغربيين، إلخ.
هل كان يمكن أن تكون هذه الرواية أقصر؟ أنا واثق من هذا، لكن من الجائز جدًا أنَّ النتيجة لن تكون في صالح حالة المتعة التي نبعت بدرجة منها في سَحلة القارئ مع حرنكش من أول لحظة، تبتلعه رمال ناعمة، أو دوامة حكايات مثل البلاعة. حالة الرحرحة وأخد الراحة التامة في حكي كل ما يمكن أن يكون له دعوة أو دخل بحياة حرنكش الداخلية والخارجية، طبعا مع الحرص على توتر الحكاية في معظم الأوقات. فكرت ما كنت لأتردد من حذف بعض الشخصيات تمامًا مثل الست أم الشهيد التي كانت تسكن في الدور الأرضي تحت شقة حرنكش في الدقي، وبالتالي كل ما يتعلق بها من حكايات وخلافه، ورغم ذلك أفكر أننا كنا سنفقد بهذا خيوطًا ردامية مهمة، القنبلة والضابط وغيرهما، فبالتالي أصل لنتيجة أن نسيج خيوط هذه الرواية مثل شبكة متماسكة، تمامًا مثل شرنقة الحرير التي ينسجها دود القز قبل تحوّلها لفراشات تطير خارج السِجن ونحو الضوء في السطور الأخيرة من الرواية.