تطرق هذه الرواية أبواباً في القلب يتمنى المرء معها نهاية لرحلة كل تائه عرفه في حياته، شبيهة بنهاية رحلة بطل هذه الرواية.
قد تكون هذه القصة محض خيال، غير أن أحداثها واقعية إلى أبعد الحدود. فالشكوك التي راودت البطل تراود كثيرين ممن يعانون بصمت دون أن يجدوا دليلاً يرشد قلبهم ولا عقلاً يستوعب ما يموج في عقولهم التي تعصف بها الشكوك والأوهام. تسلط الرواية الضوء على هذه النقطة المفصلية في حياة الكثير من أبناء الإسلام الذين قوبلوا بالكلام النظري الذي لا يثلج لهم صدراً، أو بالرفض والإسكات، حتى بدؤوا مشوار البحث بأنفسهم في بطون كل غث وسمين من الكتب والفلسفات، لينتهي الأمر بأغلبهم على عتبات الإلحاد أو اللاأدرية أو اللادينية. وهو أمر بتنا للأسف نشاهده كل يوم في شبابنا.
تظهر الرواية أيضاً أثر الصحبة الصالحة على نفوس المنكرين، وضرورة البقاء والالتزام بمحاولة إرجاع الشخص إلى الجادة الصحيحة، وضرورة عدم نبذ المخطئ إذا أخطأ، مما سيزيد الطين بلة، بل استيعابه ونقاشه بالحسنى وزيادة.
نرى في القصة صوراً من ألطاف الله، ورسائله المضمنة، ودعواته التي لا يملّ من بعثها لتنير لنا طريق العودة حتى ولو مللنا، حتى ولو لم نعد نميز الطريق أصلاً. وفي أحلك ساعات العتمة يأتينا بقبس ينير العقول ويحيل ظلام شكّها أملاً ويقيناً يسحباننا طوعاً نحو بر الأمان الذي لا يكون إلا بمعيته جل وعلا.
تجمع الرواية الأضداد كلها وتقلبات الحياة، فمن أقصى درجات الالتزام إلى أقصى تفلتها، ومن اختيار العفة إلى السعي نحو الرذيلة، ومن اليقين إلى النكران، ومن السكينة إلى التخبط، ومن الراحة إلى العذاب. محطات قد يمر بها كل منا، ولكن البطل الحقيقي من يستطيع متابعة البحث حتى يصل أو ،في حالة بطلنا هذا، حتى يعود إلى بر الأمان حيث تكمن الحقيقة. وهو ما كان من أمر بطلنا هنا.
هي قصة التزام، فشكّ، فنكران، فترك تام، فغرق، فعذاب، فبحث، فحنين، فوصول ونجاة.
أحببت وصف المشاعر التي اختلجت البطل في مختلف المراحل، واحترمت أسئلته وشكوكه على الرغم من وضوح إجابات بعضها وغرابة بعضها الآخر نظراً لنشأة البطل ومكانته العلمية. ولكن على أية حال، من لا يسأل لن يبحث عن البرهان ولن يجد جواباً.
كما أحببت أيضاً وصف الاماكن والبلدان وأحسست بعلاقتي ببعضها والتهمت الصفحات استمتاعاً بالحديث عنها، ونفرت من أخرى رغم استمتاعي أيضاً بالقراءة عنها!
كانت الرواية ملئى بالمعلومات والفوائد والعبر والرسائل المضمنة. فلم تكن مجرد رواية كتبتها الكاتبة ومضت، بل كانت ثرية وكانت المساحة بين سطورها ملئى بما يمكن استنباطه والإفادة منه.
يبدو بأن طول غيبة الكاتبة وانقطاعها عن قرّاءها قد كان ورائهما انفجار عظيم للإبداع في القصة والحبكة والأسلوب واللغة أكثر مما كان لأي كتاب خطّته سابقاً. فقد مشت بنا في قصة متماسكة بأعذب أسلوب خاطبت به العقل والقلب. حيث كان للعقل هنا هيمنته المميزة على مجريات القصة على طولها دون إهمال لدور القلب كبوصلة.
وكان مما أعجبني أيضاً هو الإيجاز والاستفاضة حيث يجدر وجودهما. وهذا أمر كان غاية في الإتقان، فقد عانيت مع رواياتها السابقة من الاختصار حيث تجب الاستفاضة و من العكس، وهو ما لم أجده هنا أبداً.
كما لا يمكن ابداً إنكار جمال اللغة وعذوبتها، وحسن انتقاء المفردات، وجمال السرد الفصيح التي كان من الواضح تطوّرها عند الكاتبة وإمساكها بزمامها كما لم تفعل يوماً.
إذا كانت كل الكتابات بعد انقطاع ستكون هكذا، فيا ليت معظم الكتاب ينقطعون حتى يخرجوا لنا بدرر كهذه.
أحببت الرواية بكل ما فيها. وعلى الرغم من عدم تقبّلي في البداية لأسلوب السرد بلغة المخاطب، إلا أنني سرعان ما اعتدته واستسغته حتى لم أعد أشعر به. وعلى الرغم من كل ذلك، أجد النجمات الأربع كافية نظراً لبعض النقاط الصغيرة هنا وهناك.
رواية رائعة التهمتها -على طولها- في ثلاث جلسات غاية في الإمتاع، وأنصح بقراءتها خاصة لمن تمور بعقولهم بدايات الشكوك.. أو حتى نهاياتها.