عجباً لأمر هذا الكاتب، مع كل رواية يزداد إبداعاً وتزداد قصصه تألقاً وتفاصيلها جمالاً.
في هذه القصة عرّفني الكاتب مرة أخرى على أحداث تاريخية لم أسمع بأمر حدوثها، ولم تجر على لسان أيّ ممن سمعتهم ولا خُطت على صفحات كتاب قرأته يوماً. هذه الأحداث هي أيام حكم المسلمين لإيطاليا، وازدهار حكمهم وازدهار المدن التي دخلوها فعمروها.
ظننت لأول وهلة أن هذه الاحداث نشأت من خيال الكاتب المحض ليقدمها لنا كفنتازيا تاريخية مثلها كمثل روايته طريق الحرير، إلا أن الأحداث والأسماء والشخوص كانت تزداد ألفة صفحة بعد صفحة لتزيد شكّي في كونها خيالاً، وتجعلني أُطرق كل بضع دقائق أتفكر في صحة الأحداث، حتى ضقت ذرعاً وبحثت على الإنترنت لتتجلى لي حقيقة أحداث الرواية بكل أماكنها وأزمانها وأحداثها وشخوصها، ما خلا التفاصيل الدقيقة التي كان جلياً وضعها كمحض تلبية للحاجة الروائية.
باري، تلك المدينة التي شهدت واحدة من أعظم البطولات الحربية الإسلامية وواحدة من أشنع المجازر التي ارتكبت بحقهم يوماً باسم الدين والرب وهما منهم براء.
تجسد الرواية عظمةً كانت لنا يوماً، ورهبة زرعت في نفوس أعدائنا، ومجداً غابراً لم يبق من أثاره سوى أوابد تروي حكاية أن قد مررنا يوماً من هنا، وتركنا بصمة وعمّرنا وحكمنا وأوجفنا قلوب من عادانا وكان لنا صولة وجولة حتى هابتنا أمم الارض.. يوماً..
أحسست القهر يتقطر من حروف هذه الرواية، وكأن الكاتب كان يعتصر ألماً على حال أمتنا حتى انتقى يوماً من أيام عزتها ليعيد فيه إلى أذهاننا صورة كانت أبهى ما تكون لولا التصارع والطمع والخنوع الى الدنيا، والخيانة.. الخيانة التي قتلت هذا المجد عبر التاريخ الذي كان يعيد نفسه مرة ومرة ومرات حتى سئم، ولم يسأم الخونة حتى تركوا أمتهم رماداً تذروه رياح جاءت كما تشتهي سفن أعدائهم تماماً، وليتهم كسبوا من خيانتهم شيئاً.
كانت في حوارات الجانب الأضعف في الرواية (أي البيزنطيون) حول ضرورة التوحد وبتر الخلافات ونبذ الخونة وترك المطامع على طول الرواية إلماحاً ذكياً من الكاتب على نمط (الحكي لك يا كنة واسمعي يا جارة) ليرينا في نهاية الرواية كيف أنهم لما اتحدوا وآمنوا بقضيتهم تراءى لهم النصر قريباً.
في الرواية ما فيها من جمال تعبير وعبرة وتاريخ وحزن و ألم، ولم تخلُ من اعتزاز بماض، وزرع أمل ورسم صور من الجمال بين ثنايا الكلمات.
أبدع الكاتب بتصوير كل المشاهد ليشاهدها القارئ لا ليقرأها فحسب. كان في العبارات من جمال وحسن وصف لدرجة جعلتني أغالب دمعي في مرات وأعيد القراءة في أخرى لأرتوي من جمال اللغة العربية حين توضع كلماتها بين يدين مبدعتين تحسنان سبكها في أجمل صياغة.
كانت الحبكة متماسكة ومحكمة وخالية من نقاط ضعف أو أحداث صُنعت خيوطها وتركت دون أن تعقد. وكانت في الأحداث من التشويق ما جعلني أنهيها في أربع جلسات فقط رغم تجاوزها 500 صفحة.
غير أنني مع كل هذا الشرح والمدح، وجدت نفسي قد اكتفيت بأربع نجمات تقييماً، نظراً لاعتراضي على بعض الجمل والعبارات التي اعتبرها خارجة عن السياق المؤدب الذي اعتدته من الكاتب، كما كان هناك بعض التطويل في بعض الجوانب والأحداث التي لم يكن بروايتها فائدة، ولو اختصرت لما أثر غيابها على سياق الرواية.
كما يبدو بأن دار النشر قد أهملت التدقيق الاملائي في بعض المواضع فتوزعت بعض الأخطاء الاملائية هنا وهناك على طول الرواية لتتركز مع فصليها الأخيرين، وكأن المدقق قد ملّ التدقيق واندمج في الأحداث الختامية لينسى مهمته في تصحيح لغتها.
على العموم، الرواية كانت لتكون رائعة ومثالية لولا بعض الملاحظات، إلا أنها لن تكون قراءتي الأخيرة لهذا الكاتب إن شاء الله. كما أتمنى أن يتلافى بعض الأمور ويتفادى أخرى في رواياته القادمة حتى تصلح لتكون زاداً نقياً رائقاً راقياً يحبب الشباب المسلم في تاريخهم، دون تجاوز ولا اتباع لتيار الكتابات المملوئة حشواً فارغاً لسد نقص الإبداع وتفاهة المضمون. فهنا مضمون هامّ، وإبداع لا يبدو أنه سينضب، فلا يحتاج بالتالي إلى أي حشو هنا ولا هناك.