بمجرد أن يطالع القارئ الصفحات الأولى من رواية «أشباح بيت هاينريش بل» للشاعر والروائي «علاء خالد»، الصادرة عن دار الشروق، حتى يكتشف اللعبة/الحيلة التي يضعه فيها الكاتب، إذ يتعرّف مباشرة على حكاية رحلة سيقوم بها الكاتب متجهًا إلى إحدى قرى ألمانيا في منحةٍ أدبية، وهو يودّع زوجته «سلوى» قبيل السفر، ولكن ذلك كله يحدث في وقتٍ له خصوصيته وثراؤه في مصر، بل في العالم كله، ذلك أنه في أعقاب الثورة المصرية 2011 وبعد أيامٍ من تنحي الرئيس السابق «مبارك».
العتبة الثانية أو المدخل التالي للرواية سيكون اكتشاف القارئ أن ثمة كتابًا آخرين غير «علاء» المصري القادم محملًا بآمال ثورته وأحلامه، ثمة تجارب إنسانية من بلدان مختلفة، سمعوا عن الثورة المصرية ويحمل كل منهم تاريخًا وخبرات وثقافة تتعلّق بالثورات أيضًا. وهناك في ذلك الجو الخاص جدًا، وفي تلك العزلة الكتابية المفروضة عليهم يتبادلون الأفكار والحوارات حول ما يمكن أن يئول إليه مصير الثورات بعد أن تبذل الشعوب دماءها وأرواحها من أجل الحصول على الكرامة والعيش والحرية.
هكذا يجتمع في بيت الروائي الألماني «هاينريش بل» كل من؛ «زوفنكو» الشاعر الصربي، و«جيرمان» القادم من «الشيشان» وما تحمله تجربته من ثراء وخصوصيّة، والروائي والشاعر البيلاروسي «ألجريد» الذي ينقم على «روسيا» ومحاولات سيطرتها على مقدرات شعبه، مع الكاتب الصيني «يي كاي» الوافد الأخير على المجموعة.
بين حوارات هؤلاء الكتّاب الذين سيتحولون إلى أصدقاء، وحوار الكاتب/الراوي الداخلي مع نفسه ومع قارئه عن الثورة، وتلك المقالات التي يضمنها روايته ويتحدث فيها بشاعرية عن لقطات دالة وموحية داخل نسيج الثورة المصرية التي كانت، يدور عالم الرواية ويسترجع القارئ معه ولا شك أفكارًا كثيرة متعلقة بالثورة وبحلم الحريّة الذي يبدو أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فيما الكاتب/الراوي متشبثٌ بطرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل. في إحدى المقالات التي يرسلها الكاتب للنشر في مصر متحدثًا عن الثورة يقول:
النشوة التي حصلناها أثناء الثورة كانت شبيهة بالأحاسيس التي ينشرها الجنس في الجسم، تتسرّب في خلايا الوعي واللاوعي، تقف عندها على حدود البكاء والهذيان العاقل، مدفوعًا بقوّةٍ تأتي من وراء ظهرك. تسقط العبارات من سماءٍ مفتوحة، هذا البذل الذي تمنحه من صفاء روحك لحدث خارجي، لآخر يقف في منتصف الطريق. وربما للمرّة الأولى تتحقق مثل هذه النشوة الجماعية، أين ستمضي رحلة هذا الشلال إن لم تصادف أرض ميعاد جديدة؟
هكذا يعبّر «علاء» بطل الراوية وهو الذي يتماهى في شخصيته وربما أسلوبه مع الكاتب إلى حدٍ كبير، لكن الكاتب لا يُصرّح بذلك أبدًا، بل يترك للقارئ رؤيته الخاصة وإعمال خياله الخاص، بل يترك له كذلك فرصة أكبر في استعادة التفكير في الثورة التي كنّا نظن أنها انتهت، أو أن فصولها قد تمت على النحو الذي نعيشه الآن.
ولكن علاء خالد يحمل رؤية مغايرة وتصورًا مختلفًا، عبّر عنه في الرواية بشكلٍ واضح، حيث استطاع أن يجمع ما يمكن أن نطلق عليه «أيقونات» خاصة بلحظة الثورة المصرية الراهنة ويتناولها بشكلٍ مختلف لكي يعبّر من خلالها عن رؤيته للثورة بشكلٍ ربما يتجاوز فكرة الصواب والخطأ، بل لا ينتظر من ذلك ما تسفر عنه الثورة من نتائج، أي أنه قد يتجاوز الثورة نفسها ليقدّم ما قامت به -وهو يراه كبيرًا وعظيمًا في حد ذاته- بشكلٍ مستقل.
ولكن الأمر لم يعد مقتصرًا على حكاية «الثورة المصرية» أو تقديمها على هذا النحو والتفاعل معها سلبًا أو إيجابيًا، بل لعل أهم ما تقدمه الرواية هو رؤية الآخر وتصوراته عن هذه الثورة، بل كيف يرون مستقبلها منذ البداية، هنا تأتي أهمية أصوات الكتّاب الآخرين في بيت «هاينريش بل»:
عندما سألته عن الأسباب التي لا تجعل الشعب يثور وهو يعيش في مثل هذه الظروف الصعبة، كنت أسأل بقلبٍ جريء، فأخيرًا أصبحنا نملك ثورة حديثة يمكنني من خلالها أن أمسك ببدايات كتاب أعرف الصفحات الأولى منه. قال إن الناس في روسيا مجهدون تمامًا، ولا يفكرون في أي ثورة بعد إنهاكات ثورة 1917 ثم البيروستوريكا، والتي تعتبر ثورة حديثة بدون دماء أو شهداء، حتى لمن لم يعاصروا ثورة 1917 البلشفية التي أثرت سلبًا على الأجيال اللاحقة. يزاداد وجهه تغضنًا عندما يتحدث عن الأمل المفقود في إحداث أي تغيير في روسيا، لاستحالته. يردني كلامه ويأسه للوضع في مصر قبل الثورة، وكان الجميع متفقًا على استحالة حدوث أي تغيير جذري، يبدو هنا السر، فكرة الاستحالة نفسها دائمًا ما تخفي وراءها فكرة المعجزة، فتحقق الاستحالة يصل بالأشياء والمشاعر والأوضاع إلى مرتفعات لا تجد بعدها مكانًا تصل إليه، فتتحوّل الاستحالة إلى نقطة تحوّل مهمّة. أيًا كان نوع هذا التحوّل.
قد لا يبدو المشهد في مصر على هذا النحو الذي حكاه البطل في رواية كتبت، وتتحدث عن الثورة في أوج عزها وفورانها، بل ربما تكون المفارقة أن الحال أصبح شديد الشبه والاقتراب مما أصبح عليه الوضع في «روسيا» بعد الثورة البلشفيّة، وربما تكون هذه طاقة الأمل أيضًا التي يحاول الكاتب جاهدًا أن يبثها في النفوس ولو بشكلٍ خفي.
وهكذا من بين تلك الحوارات والمواقف وتلك الحالة التي تبدو حيادية في أحيان كثيرًا تكتسب «أشباح بيت هاينريش بل» خصوصيتها، لا سيما وأن الكتاب يزاوج ببساطة واقتدار بين كونه مجرد مذكرات واقعية عاشها الكاتب وتفاعل معها وحكاها كما هي، وبين كونه رواية أدبية تحكي أيضًا بقدرٍ من الواقعية أحداثًا وشخصيات وعوالم اقترب منها القارئ إلى حدٍ كبير وعاش كثيرًا من تفاصيلها.
لم تقتصر الرواية أيضًا على هذا الجانب الذي قد يبدو سياسيًا وفكريًا في الحكاية، بل تطرقت للعديد من الحكايات العاطفية والمشاعر الخاصة التي نشأت سواء بين أصدقاء الكتابة في ذلك المكان المنعزل عن العالم، أو حكاياتهم الخاصة وما يحملونه من مشاعر تجاه حبيباتهم، علاقاتهم العاطفية كل ذلك جاء بسلاسة وبطريقة مكثفة من خلال المواقف والحكايات التي مروا بها، أو التي أثّرت عليهم فحكوها لصديقهم القادم من بلاد الثورة.
وهكذا قدّمت «أشباح بيت هاينريش بل» تجربة سردية تتجاوز الكثير من التجارب والكتابات التي تناولت الثورة، سواءً في الشهادات التي قدمها معاصرون، أو في الروايات التي حاولت أن تصف وتكشف جوانبها وخفاياها كما قرأنا في السنوات الأخيرة، واستطاعت أن تجمع مع مشاهد الثورة رؤى مختلفة وأفكارًا تتجاوز الحدث الراهن بشكل كبير، كما تطرح العديد من التساؤلات والإشكاليات حول العلاقة مع الآخر وعلاقتنا بما يدور داخل مجتمعاتنا ومواقفنا منها.