غراميات: هل يخطئ الموتى حين يرجعون؟
يقول صاحب رواية غراميات، الروائي ،القاص والمُترجم الإسباني "خافيير مارياس": (إنني أرى أن واحدًا من الأسباب التي تدعونا لكتابة الروايات وقراءتها أننا نحتاج على نحو ما شيئًا نرويه مرّة واحدة، بشكل جيّد، مرةً واحدة وإلى الأبد، حتى ولو كان ذلك الشيء من صنع الخيال، حتى ولو لم يحدث على أرض الواقع) هل يمكن القول أن غراميات مارياس هي الرواية التي جمعت متناقضات الحياة و الموت، الغرام و القتل ، الصداقة و الخيانة؟.
تدور أحداث رواية (غراميات) لخافيير مارياس ، في إسبانيا تحديدا العاصمة مدريد ، تقوم ماريا الفتاة الشابة التي تعمل في دار نشر في مدريد، بتناول القهوة كل صباح قبل ذهابها إلى العمل و هي تستمع لعدة سنوات إلى محادثات بين زوجين مع طفليهما الصغيرين اللذين يترددان على المقهى نفسه، ترسم ماريا لهما في مخيلتها لوحة «الزوجان المثاليان»، ومع تواتر الأحداث، يموت الزوج فتلتقي الشابة بالزوجة، لتكتشف ماريا من خلال الأبواب الموصدة أن الأمر يتعلق بجريمة قتل ، تتداخل أحداث الرواية بعدها بين الموت و الغرام ، القتل و الصداقة و الإفلات من العقاب.
(كان يناديها "أميرتي" و بسبب قوله ذلك صرت أتمنى لهما كل ما في الدنيا من خير ،كما لشخصيات رواية أو فلم يتحزب لهما أحدنا منذ البدء ،على الرغم من معرفته بأن شيئا سيئا سوف يحدث و أن شيئا ما سيلويهما في لحظة ما أو لن يكون هناك رواية أو فلم) ، هكذا يرسم مارياس _في المشاهد الأولى للرواية _ بريشة الكلمات و بنثره الآسر ما يشبه لوحة فنية جميلة تتأملها طويلاً ، تُدخل إلى قلبك بعض السرور و طمأنينة آنية ، تعجبك اللوحة تغرم بها ، و ربما تتخذها روتينك اليومي ،كحافز في الحياة ، كمثل أعلى لإجتماع شخصين ،ثنائي مثالي ، كإتحاد خاص و خالص لآدم و حواء في الحياة الأرضية، كحبٍّ ، زواح ،رباط مقدس في أبهى صوره، ثم فجأة يحدث أن تتمزق اللوحة،يزول لونٌ أساسي ، يُعتم و يُلقي بظلاله على بقية الألوان، يختل نظام الألفة و الانسجام المتناسق فيها ، هنا فقط تظهر الشروخ الناتئة من العدم ، تظهر كسكين مزق اللوحة و خطف الألوان بلا رجعة، يقول مارياس : ( كم يبدو سهلًا تلاشي أحدهم"، كنتُ أفكّر "يكفي أن يُغيّر عمله أو بيته حتى لا يعود أحدنا يعرف عنه أي شيء أو لا يعود يراه في الحياة بل يكفي أن يعدّل مواعيده، كم هي هشّة الروابط القائمة على الرؤية البصرية وحدها) كثيرة هي تلك الروابط التي تنشأ عن الرؤية البصرية وحدها _كما يسميها مارياس_، مثلا مشاهد أشخاص نلتقي بهم يوميا أثناء مرورنا بشارع و نحن نقصد مدارسنا، جامعاتنا، مكاتبنا، هم أشخاص عاديون جداً و نحن لا نكاد نعرف أسماءهم، أعمارهم و أحوالهم لكن بالمقابل تنشأ تلك المعرفة اليومية التي لا نلقي لها بال ربما يعودون الأقرب إلينا بحكم الديمومة و التكرار، تلك الروابط البصرية لن تعود هشة في يوم من الأيام ،ربما حادث ما ، خطب ما يجعلها تتوطد تتطور تدوم بعدها إلى الأبد من يدري!.
جميلة هي كالحب، كالاستغراق في الحب أو: كالغراميات
هل الحب و الموت وجهان لعملة واحدة؟
يقول الروائي الفرنسي (ستندال) : «الحب الحقيقي يجعل فكرة الموت مألوفة، خفيفة، وليس فيها ما يُفزع يصبح الموت موضوع موازنة بسيطة، يصبح الثمن الذي يقبل المرء بدفعه لقاء أشياء كثيرة» ، كثيرة هي قصص الغرام التي تنتهي بالموت بل لعل سبب شهرتها في كون النهايات جاءت على شكل: موت _كشهرة قصة روميو و جولييت_ إن فكرة الإنفصال الأبدي عن المحبوب في الحياة الدنيا تفضي بلا شك بصاحبها إلى تهوين فكرة الموت ، حيث يصبح الموت هو موعد أو مكان وصال بدل أن يكون فَناء ، هو الخلاص الوحيد على أمل البعث في عالم آخر أفضل، أو العدم الذي لا يشعر فيه المرء بأي نوع من عذاب الغرام ،عذاب خسارة المحبوب، في غراميات مارياس،تعددت أشكال هذا الحب أو الغرام ، يروي لنا مارياس كيف تصرف كل من الرجل و المرأة ناحية هذا الحب،الأكيد أن حب التملك المجنون و الصبر العجيب كان سائدا في حب( دياث_باريلا ) ل (لويسا) زوجة صديقه (ميغيل)، تماما كان حب (ماريا) ل(دياث_باريلا) نفسه، يقول مارياس على لسان ماريا: ( كثيرات منا نحن النساء نميل إلى التفائل و نحن مزهوات و معجبات بأنفسنا في أعماقنا و بعمق أكثر من الرجال ،لأنهم في ميدان الغراميات مجرد عابرين، و ينسون مواصلة ذلك: نفكر بأنهم سيغيرون موقفهم أو قناعاتهم، و أنهم سيكتشفون تدريجيا أنهم من دوننا لا يستطيعون المرور و أننا سنكون استثناء في حيواتهم ...فحتى أشد الرجال قلقا و حذرا ،أو أشدهم آلية يمكن لهم التحول إلى كسالى لا سيما بعد إحباط ما ،أو هزيمة أو بعد انتظار طويل غير مجدٍ).
هل يسيء الموتى التصرف برجوعهم؟ بعبارة أخرى هل يخطئ الموتى حين يرجعون ؟
les morts ont donc bien tort de revenir ?
غريب هذا السؤال الذي يطرحه علينا مارياس في روايته هذه" غراميات" ، غريب، غير معقول و صادم أيضا لكن ماذا إن حاولنا مجاراته و الإجابة عنه! ماذا سيكون جوابنا؟ أو بعبارة أخرى ماذا ستكون ردة فعلنا إذا ما عاد موتانا إلى الحياة؟ إنه لأمر مفاجئ، لا يصدق أو ربما يصير غير مرغوب...، يقول مارياس (إننا نميل إلى الرغبة في عدم موت أحد و عدم إنتهاء شيء ،مما يرافقنا و يشكل عادتنا المحببة، دون أن ننتبه إلى أن ما يُبقي على العادات سليمة بلا تغير هو تجاوزنا المفاجئ لها، دون انحراف أو تطور محتملين...فما يستمر يتلف و ينتهي إلى التعفن و يضجرنا، يتحول ضدنا يوصلنا حد الإشباع و يتعبنا ) التجاوز، محاولة النسيان ،أن نمضي قُدما، الأمر ليس سهل بالتأكيد، أحيانا يموت الأحياء أيضا بمجرد دفن موتاهم، موتى على قيد الحياة، (لويسا) هي المثال لهذا الشخص الفاقد، فقدت زوجها، أبو ولديها و أيضا حبيبها و صديقها الوفي اللصيق، إختار ماتياس المرأة كشخص وقع عليه قدر الفقد و ربما هو القدر الموجع جدا لأي إمرأة كانت بالعالم، موت الزوج هو العبء الأصعب الذي على المرأة تحمله و عليها أن تخرج منه بأقصى ما لديها من قوة و قدرة على التكيف و النسيان ، (كم من اللحظات الأبدية ستتوافر لها في عدم معرفة كيفية المساعدة في تقدم الزمن ... اتنتظر أن ينقضي الوقت في الغياب العابر للآخر _ الزوج، العشيق_ و في اللانهائية و في ما هو غير نهائي و حاسم بالرغم من أنه يبدو كذلك؟ و تهمس لنا به الغريزة بإلحاح فنقول : (صمتا ،صمتا أخمدي هذا الصوت ،مازلت أريد سماعك، مازالت تنقصني القوة ،لست جاهزة ).
بالزاك ، دوما و شكسبير ...
في عالم الرواية أو العالم الروائي يسعى الكاتب من خلال توظيف رصيده و كلماته اللغوية من أفكار ،فقرات، و جمل إلى تشكيل رؤيته للحياة ،الكون و المجتمع ،و لطالما كان موضوعا الحياة و الموت كثنائية متباينة شغلت العديد من الكتاب عبر العصور ، ما نتج عنه مصطلح ما يسمى فلسفة الموت ، حيث يسيطر موضوع الموت على مفاصل الرواية، ظهرت على إثره دراسات حول جمالية الموت في الرواية، لذا عاد بنا مرياس من خلال "غراميات" إلى رواية (بالزاك) في قصة (الكولونيل شابير) قائد الخيالة الفرنسي في معركة إيلو بين فرنسا و رويسا القيصرية آنذاك ،هوجمَ الكولونيل من طرفِ ضابطينِ روسيينِ وتلقى ضربةً بالسيف من أحدهما في رأسه ثم أخبروا الإمبراطور أنه قد مات ، و تم بالفعل دفن الكولونيل مع بقية جنده في حفرة مجهولة ، لكن تشاء الأقدار أن يعود الكولونيل للحياة بعد وضعه في الحفرة و سماعه لأنين جنده المتوفين، يعود بعدها الكولونيل و يرغب في إسترجاعَ أملاكِهِ وزوجتِهِ لكن زوجته رفضت تقَبلَ عودته خصوصاً أنها حازت على ثروة كبيرة باعتبارها أرملَتَهُ وأن لها زوجاً جديداً هو الكونت فيرو الذي تزوجها لثروتها ومكانتها ، رغم رفض زوجته و معاملتها الفظة له لم يسع الكولونيل شابير للإنتقام و عاد أدراجه مجولا كما نشأ، بالمقابل يقحم مارياس أيضا وسم( زهرة الزنبق) على كتف (ميلادي) زوجة (آثوس) أحد الفرسان الثلاث في رواية (دوما )والتي وُصفت بها لارتكاب جناية في شبابها، يقحمها في لعبة الحياة و الموت ،ميلادي التي شنقها زوجها على شجرة بعد إكتشافه لوسم زهرة الزنبق على كيفها تعود إلى الحياة و تسعى هي الأخرى للإنتقام و الخيانة، و أقسمت على قتل أزواجها و عشاقها الذين إكتشفوا "سرها" ، ومن أجل ذلك ، قالت ، يجب أن يموتوا ، قدر الموت طال أيضا زوجة (ماكبيث) في رواية شكسبير يقول ماكبيث:(كان عليها أن تموت في ما بعد ،عندما لا أكون أنا موجوداً هنا لأسمع الخبر ، و لا أرى و لا أحلم بأي شيء ،عندما لا أكون في الزمان و غير قادر حتى على الفهم) ، هو الموت إذن الزائر المفاجئ حينا و القدر مع سبق الإصرار والترصد، يقول مارياس :(كيف يمكن لأحدنا أن يمتلك الحق في شيء لم يبنِه و لم يكسبه؟ لا لأحد أن يشكو من أنه لم يولد ، أو أنه لم يوجد من قبل في العالم ،أو أنه لم يوجد فيه منذ الأزل، و لهذا لماذا على أحدنا أن يتذمر من الموت ؟ أو من أنه لن يوجد بعد ذلك في الدنيا أو من عدم بقائه فيها دائما؟ هذا المطلب يبدو له عبثيا من المطلب الآخر، لا أحد يعترض على تاريخ ميلاده و ليس له أن يعترض بعد ذلك على موعد موته).
أُوكل مارياس إلى (ماريا) أو (الفتاة الرصينة) شخصية الراوي، ،و حّملها دوراً بالغ الخطورة تمثل في سعيها إلى الحصول على الحقائق الكامنة وراء المظهر الخارجي للأشياء ، و بالتالي إكتشافها القاتل و مساعديه، خلف الباب الموصد، و بصدفة غير متوقعة إكتشفت ماريا لغز الجريمة، فكان عليها فيما بعد مواجهة القاتل و المساعد، جعل مارياس القارئَ متماهياً مع الراوي الذي يحاول انتزاع نتف اعترافٍ من هنا، ونصف حقائق من هناك ومما زاد في تشويق القارئ هي الأرضية التي مّهد من خلالها مارياس لموضوع الموت ، الخيانة و الحب المجنون ، هي استشهاده بروائع الروايات العالمية، بالإضافة أيضا الى الفقرات العميقة و الطويلة (المكررة في بعض الأحيان و المملة) جُمل استطراد صنعت أسلوب مارياس و أثرت الرواية ، حتى ليشعر القارئ في بعض الأحيان أنها تقتحم عليه موضوعه و تُدخله في مواضيع جانبية و هو بالفعل ما حدث حيث تعددت مواضيع الرواية بين الموت ، الغرام ، الصداقة ،الخيانة و الجريمة حتى ليضيع القارئ في تحديد موضوع واحد لها أو حتى تصنيفها لهذا أضحت رواية غراميات عصية على التصنيف.