حكم أحمد باي تونس ١٨ عامًا، لم يحصل فيها تغيير يذكر بعد كلّ تلكـ السّنين الزّاخرة بالعمل الشّاق والمتواصل وكانت مجهودات التّحديث واضحة، والإنفاق عليه هائلًا، ولكن النّتيجة كانت مخيّبة، وتونس عام ١٨٥٥ بقيت هي ذاتها تونس عام ١٨٣٧.
ذلكـ هو سبب الإختلاف بشأن شخصيّة أحمد باي، الرّجل الذي كانت عيوبه ومزاياه متلازمتين، تسيران معًا، جنبًا إلى جنب، ولذلكـ لم يصدر عليه أحد من المؤرّخين المعاصرين ولا المحدثين حكمًا واحدًا قاطعًا.
إنّ فكرة بعث وطن تونسي حديث بدأت تظهر في عهده، ومع أنّه لم يحقّق أيّ نجاح فيها، ولم يكن أوّل من غرس بذرتها في تونس، لكن بقي له ولعهده الفضل في نموّ تلكـ البذرة وظهورها بشكل أكثر.
لقد حاول أحمد باي، بنيّة صادقة، أن يبني دولة متحضّرة وقويّة، تتمتّع بالسّيادة والإستقلال، لكنّه في الحقيقة كان أضعف وأقلّ موهبة من أن يقوم بذلكـ العمل الضّخم بمفرده، وبطريقة حكمه العتيقة، وبأجهزة إدارة غير مسؤولة، وغير مهيّأة للتّعامل مع الدّور الموسّع الجديد الذي اِنطوت عليه برامجه في البناء.
إنّ فضل أحمد باي لا ينكر في بناء المدرسة الحربيّة في باردو، وفضله أيضًا في القضاء على التّمييز المتوارث بين علماء الدّين، الذي عُدّ من الخطوات الإيجابيّة باتّجاه ما يسمّى اليوم الوحدة الوطنيّة. وكان إلغاء الرّق أعظم منجز حقّقه خلال حكمه، كعمل إنساني مهمّ لإزالة معايير التّفرقة في تونس، وإرساء الأساس لما يمكن أن يصبح صفة لمجتمع يتسّم بالحرّية والتّماسكـ والحسّ الوطني.
بذل أحمد باي نشاطًا جيّدًا في مجال الثّقافة والتّعليم، وعلى الرّغم من تأخّر النّتائج، وذلكـ النّشاط، كان يدور في فلكـ السّياسة الرّسمية التي كانت غايتها تلبية رغباته في التّحديث، إلّا أنّ التّعليم العصري اِنتشر بعد ذلكـ، وساعد على زعزعة سيطرة الفكر القديم، والأسلوب التقليدي في التّعليم.
لم يعمل أحمد باي على توفير مؤسّسات دولة حقيقيّة تحمي السّكان وتعالج مشاكلهم وأوضاعهم وكان رحيمًا كريمًا في علاقاته مع رجال دولته وخواصّه، لكنّه لم يكن كذلكـ مع أفراد الشّعب المغلوبين على أمرهم، وقابل طلباتهم دائمًا بالإهمال، ووضعهم تحت رحمة موظّفين لصوص وعديمي الضّمير، فأحسّوا بالمرارة، واِنعدم شعورهم بالإطمئنان وبالرّكون إلى دولة تحافظ على حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم، فاِزدادت الهوّة اِتّساعًا بين الشّعب من جهة، وبين الباي وموظّفيه من جهة أخرى. ولتلكـ الأسباب، كره الشّعب التّونسي مشاريع أحمد باي، ولا سيما أنّ فوائدها لم تظهر سريعًا، ولأنّها اِقترنت دائمًا بارتفاع الضّرائب.
لقد اِنحصر تفكير أحمد باي بتقوية جيشه وزيادة أعداده باِستمرار وتحت أيّ ظرف، من دون أن يلتفت إلى حالة البلاد الإجتماعيّة والإقتصاديّة والصّحية والثّقافية، ولم يفهم من الإدارة والإقتصاد إلّا ما يتعلّق بالضّرائب ومضاعفتها على السّكان، فدفع الفلّاح إلى إهمال أرضه لعدم جني أيّة فائدة من كدّه فيها، وذلكـ على الرّغم من إعتماد الدّولة شبه التّام على محاصيلها ومردوداتها الضّريبية. وهو شيء محيّر حقّاً أن نرى تمسّكه الشّديد بجيش ضخم، وفي الوقت نفسه يجفّف الينابيع التي تغذّيه!
لم يكن الصّعود في السّلم الوظيفي ونيل الحظوة عند أحمد باي خاضعاً للأهليّة، ولا للنّزاهة، بل كانت الوظائف والدّرجات تمنح للذي يدفع أكثر، لذلكـ انصبّ عمل الموظّف على إرضاء الباي ووزيره، وصار هدفه الكسب السّريع على حساب البسطاء من النّاس، مستخدماً في ذلكـ أشدّ أنواع القسوة والدّناءة، فبقي المجتمع التّونسي، مجتمعاً تقليديّاً مقيّداً، لا حقوق له البتّة، ولا يتصرّف إلّا وفق هوى الباي، وتوجيهاته وأوامره.
كان هناكـ تدخّل واضح للأوروبّيين في شؤون تونس، لكن ذلكـ التّدخل لم يصل إلى درجة من القوّة أعاقت جهود أحمد باي في الإصلاح، وإن كان الأمر خلاف ذلكـ، فإنّه لم يقاومهم بفعالية، بل كان يسلكـ معهم طريق المجاملة على حساب مصالح تونس، على الرّغم من معرفته بدوافعهم وأطماعهم فيها، ما قوّى من نفوذهم ووسّعه، وشجعهم على المزيد من التّدخل. وذلكـ لأنّ هذا الباي لم تكن لديه رؤية سياسيّة واضحة، ولم يتّخذ لنفسه خطّاً ثابتاً محدّد المعالم، وكان كلّ همّه التّخلص من قيد الدّولة العثمانيّة، وفي الوقت نفسه يخشى أن يفقد حمايتها له، ويفقد كذلكـ رضا شعبه ومن ثمّ شرعيّته في الحكم. كما أنّه لم يستغلّ المنافسة التي كانت قائمة بين الدّول الكبرى آنذاكـ اِستغلالاً صحيحاً، ولم يحاول توجيهها لمصلحة بلاده؛ ففرنسا التي كانت تطمح بمدّ سيطرتها على شمال أفريقيا، حاولت إبعاده عن الدّولة العثمانيّة، وبريطانيا المنشغلة بتحديد النّفوذ الفرنسي في تلكـ المناطق المطلّة على البحر المتوسّط، كانت تحرص على أن تبقى تونس في مدار الدّولة العثمانيّة خشية تفرّد فرنسا بتلكـ المناطق، فأغضب أحمد باي الدّولة العثمانيّة نتيجة ميله الزّائد إلى فرنسا، الدّولة الاستعماريّة الطّامعة.
إنّ الضّغوط الخارجيّة هي التي حدّدت سياسة أحمد باي وتوجّهاته، وكانت هي الدّافع الأساسي الذي حرّكه في مجال التّحديث، إذ كان حريصاً على إرضاء الأوروبّيين والظّهور أمامهم بمظهر الرّجل المتحضّر، وبشخصيّة غير شخصيّته الحقيقيّة، فتطلّب منه ذلك المزيد من المجاملة والتّفريط بمصالح تونس. وكان سبب اِهتمامه بالجيش هو التّمجيد لنفسه، وحماية شخصه، وحفظ نظامه، وقمع شعبه، ولذلكـ لم تصادف أعماله اِقتناعاً ولا قبولاً من الشّعب، فخسر علاقته به، وفقد منذ البداية دعمه وإسناده لإصلاحاته والسّهر على تنفيذها ومواصلة إدامتها. لقد شهدت تونس في عهد أحمد باي اِنفتاحاً جيّداً على أوروبا، لكنّها لم تشهد حركة تطوّر داخلي يعزّز ذلكـ الإنفتاح، فلم يخض هذا الباي حرباً ضدّ الأمّية والجهل في تونس، ولم يرسل مواطنين تونسيّين إلى بلدان أوروبّية متحضّرة لأغراض ثقافيّة، على الرّغم من إرساله بعثات رسميّة تعلّقت كلّ مهمّاتها برغباته كما أنّه لم يعمل على تطوير الإقتصاد بهدف التّقدم الشّامل، ولم يفكّر بإصلاح نظام الحكم الذي هو الشّرط الأساسي واللّازم لنجاح التّحديث، وبقي متشبّثاً بحكمه الإستبدادي ونظامه البالي العتيق، الذي كان سبباً لكلّ القيود التي كبّلت الدّولة والمجتمع. واِهتمّ ببناء القصور والإنفاق عليها وعلى تأثيثها بإسراف زائد، كما أنفق بسخاء على أمور أخرى لا تعدّ من ضرورات الإصلاح، ولا من مستلزماته ولم يعر البنى الأساسيّة أيّ اِهتمام، فلم تُنشأ في عهده طرق ولا سككـ حديد، على الرّغم من حاجة تونس الشّديدة إليها وحتّى المصانع والمعامل التي أقامها بجهد ومال كبيرين، لم يمض فيها إلا شوطاً قصيراً.
إنّ الفشل الذي حدث، يتحمّل مسؤوليّته أحمد باي أوّلاً، ثمّ وزيره مصطفى خزنه دار الذي كان يبيع الوظائف وينفق من خزينة الدّولة على قصوره ومصالحه الخاصّة والشّخصية، وكان من مؤيّدي الباي المتحمّسين للإصلاح وتأسيس المصانع، ولكنّه عمل في الوقت نفسه على أن تكون العقود كلّها فرصاً متاحة لجني المكاسب المادّية. لقد كانت هناكـ علاقة غريبة، ربطت بين الباي وبين ذلكـ الوزير، علاقة ليس بالإمكان كشف حقيقتها، بسبب التّناقض والغموض الذي اِكتنف هاتين الشّخصيّتين، لكنّها كانت على أيّة حال، علاقة مريبة.
لقد تطلّبت الخطوات الإصلاحيّة من أحمد باي، من أجل أن يكتب لها النّجاح، إصلاح الإدارة والتّخلص من المفسدين، إلّا أنّه لم يقدم على مثل تلكـ الخطوة المهمّة، بل فعل نقيضها تماماً حين أفسح المجال أمامهم، فنهبوا تلكـ الدّولة ذات الدّخل المحدود، وقوّضوا كلّ إصلاحاته، فتردّت تونس في عجز مالي مخيف، وشرّعت أبوابها أمام أطماع اِستعماريّة من نوع آخر، أشدّ خطراً.