#ريفيو
#حكاية_الطفلة_الضائعة
هذا هو الجزء الأخير من رباعية نابولي، والجزء الأقل إثارة برأيي، ليس لأن أسلوب الكاتبة اختلف ولكن لأنه نتيجة التسلسل الطبيعي للأحداث، فماذا بعد مرحلة الشباب الملتهبة؟ بدأت الحكايات تفقد بريقها ولكن اتضحت كل شخصية على حقيقتها، ورسمت لنا المؤلفة قصة رائعة من حكايات الطفولة المتسارعة الى الشباب المجنون كليا، الى الشيخوخة التي بدأت تفرغ من كل شيء وكأنه لم يسبقها أي مغامرات، في هذا الجزء استمرت الكاتبة وفية لخطها السردي لم تفلته لحظة واحدة، وكان هذا أخيرا جزء وضع النقاط على الحروف، نضجت إيلينا بعد أن عاشت أخطاءها حتى النخاع، وأبدعت في تصوير ضعفنا الإنساني تجاه أقوى العواطف الا وهو الحب، حصلت على حبها الذي عذبها منذ الطفولة، ثم راحت تفرغه من كل سطوته عليها حتى تركته غير آسفة، وأظنها أوضحت شيئا مهما، المرأة المثقفة لا يرضيها أي رجل، وإن عثرت على رجل، فإنها سرعان ما تختلف معه.
وظلت إيلينا تنقل لنا عواطفها الغريبة تجاه صديقتها، وكان هذا الجزء هو أكثر جزء تكلمت فيه عن نفسها، وبالمقابل عاشت فيه أطول فترة بالقرب من ليلا، حتى أنها كانت كل مرة تشعرني انها على خطأ تجاه صديقتها، صحيح أنها أبدعت في رسم العواطف البشرية، ولكن ما الذي ارعبها في ليلا، وهذا يأخذني لتحليل الشخصيتين قليلا.
إيلينا شخصية تابعة، لم تستطع يوما أن تكون شيئا نابعا من ذاتها وقد صدق ببيترو حين أخبرها أن آراءها جاهزة، وهي ذكية جدا، فقد سارت مع التيار، عرفت منذ صغرها أن الحياة لن تنصفها اذا لم تفرض عليها منطقها، فدرست لتهرب من الفقر، وأصبحت كاتبة ليس لشغفها بالأدب بل لأنها خشيت أن تقوم ليلا بذلك فتسبقها نحو المجد، تزوجت ليس لأنها أحبت وأنجبت ليس لأنها أرادت وعملت وكدت فقط لأن التيار جرفها. إنها ليست شخصية سيئة ابدا بل إنسانية جدا وقد رسمتها الكاتبة كما أرادت تماما، فهي قد قدمت نموذجا مركبا للمرأة المثقفة العادية في الوقت ذاته، هذه هي حياة المرأة حقا مهما علت وحلقت هذا هو قدرها.
ليلا شخصية نقيض صديقتها إيليا، نموذج تعيس محطم رغم كل ما لديه من إمكانيات، تحليلي لهذه الشخصية هي أنها طموحة واقعية غير حالمة، متشائمة دمرها عدم امتلاكها لرؤية ثابتة لطموحها، أو بالأحرى عدم استقرار طموحها على هدف واحد، فضيعت عمرها دون أن تحقق شيئا يذكر، ربما لو آمنت بنفسها قليلا، ولكن هنا يأتي الفخ، ليلا عرفت جيدا من تكون، لذا عاشت على منطق بسيط، عمل ما تحب مادامت تستطيع عمله، وكلما تغير شغفها غيرت حياتها وقولبتها على أساسه، ليلا شخصية تعيش داخل رأسها حقا ولا تهتم للعالم من حولها وإن احترق.
الشخصيتان معا انجبتا لنا رواية رائعة تخطف الأنفاس إلى أن نصل الى نهايتها لنكتشف أننا أصبنا بالجفاف الذي لن يرتوي أبدا طالما منحتنا فيرانتي تلك النهاية القاسية، ولكن ذلك في الواقع ذكاء الكتابة، فأنا مثلا وجدت أنه من الممكن إضافة جزء آخر طالما لم تضع المؤلفة نقطة حقيقية لنهاية الأحداث، فمازل هناك قصة طفلة ضائعة دون أثر والأدهى منه هو اختفاء ليلا الذي لم يحل لغزه.
وبالاشارة الى الطفلة، فهي ليست بالضرورة تينا صغيرة ليلا، ولكنها أيضا تلك الشخصية المزدوجة ذات الوجهين إيليا من ناحية وليلا من الناحية الأخرى، فتلك طفلة ضاعت منذ بداية الأحداث وسرقتها الحياة ولم تعد أبدا لطفولتها يوم أضاعت الطفلتان دميتيهما، اللتين في مفارقة كئيبة عادتا في آخر سطور الرواية للظهور مجددا، فقط لتضعا في رأس إيلينا ليلا الى ما تبقى من عمرها.
رواية مذهلة جدا تستحق القراءة مرارا وليس مرة واحدة فقط.
#ماريا_محمد