إنّ الكتابة عن هذه الرواية يشكّل أزمةً مستفحلة، وينبغي على كاتب المراجعة الحذر الحذر عند عرضها أو تناول أحداثها لأنّ ذلك أشبه بالسير في حقل ألغام، وعليه لأجل مراجعتها الخوض في الدهاليز، واستخدام التورية، والاتكال على ذكاء القارئ ونباهته؛ ومردّ ذلك أنّ الرواية تتناول ثيمة ما يُشاع بتسميته “الربيع العربي” حيث يتناول الروائي فادي عزام الثورة والانتفاضة الشعبية في بلدٍ عربيٍ نعرفه كلّنا، ومعروفٌ أنّ الأنظمة العربية جميعها بلا استثناء تعاني من فرط الحساسية تجاه هذا الربيع، وطالما أنّ المراجعة ستكون على المستوى الرمزي فهذا كافٍ لنعرف سقف الحرية المتاح للكاتب والقارئ والناقد على السواء.
في الرواية: يرث الدكتور أنيس المقيم في لندن بيتاً أثرياً في بلدٍ عربيّ تشتعل فيه ثورة الربيع، ويساوي هذا البيت (واسمه بيت حُدُد) أزيد من 6 ملايين دولار، وقيمةً أثرية لاتقدّر بثمن، ولأنه رفض عرض الشراء المقدّم له بأدنى من ربع هذا المبلغ تبدأ رحلة العذاب وكأنه يعيش كابوساً راسخاً لايريم.
فيديل/فضل أحد أبرز شخصيات الرواية ولاعبيها الكبار، سامية الثائرة والتي تحاول جعل بيت حُدد متحفاً يؤرخ تاريخ البلد وحضارته، عادل وليل الناشطان الثوريان، وهاني وعباس المواليان وكلهم أصدقاء الدكتور أنيس ولايسكنهم إلا حبُّ البلد والتضحية لأجله ويؤمنون جميعاً بالأرض، وعشق الحرية ورفض القهر والقمع والخنوع، والتمسّك بالحياة وتمجيد الإنسان، لكنّهم مختلفون في التأسيس لهذه المفاهيم وطريقة العمل بها.
أعجبني كيف يحاول الكاتب أن يجد توازناً بين الضرورة الفنيّة للعمل الروائي والتفسير السياسي والتاريخي للأحداث، واهتماماً ووعياً بهذا التفسير ثم الوقوف عنده على حياد (ما أمكنه ذلك).. كما يُسجّل لصالح الروائي فادي عزام استخدامه لغةً عفويةً، ولهجةً بيضاء في الحوارات تولّد انطباعاً مُريحاً عند القارئ.
بنية الرواية السرديّة تقليديّة تعتمد على المواقف، وبديهي أنّ هذه الصبغة الفنية تنتج عنها عادةً حبكة قوية. ومن أعجب ما رأيت في هذه الرواية مهارة الكاتب في توصف ليلةٍ شبقيّةٍ بمفرداتٍ صوفيّةٍ سامية؛ إنّ من يقدر على هذا التوصيف الراقي البديع لحالةٍ يستغلها أغلب الكتّاب لتمرير مفرداتٍ فاجرة هو بالفعل كاتبٌ يملك ناصية اللغة ويتحكّم بها لاتتحكم به.
سيجد القارئ في الرواية حديثاً طويلاً عن معنى الوطن والوفاء له، والسجن والمعتقلات والأحكام التعسّفية، سيجد حديثاً صريحاً عن الحكّام الظلمة الذين يسرقون الوطن لايهمُّهم إن أدّى ذلك لتعرية السّهوب الخضراء من كلٍّ دوحٍ وأيك، بل أبعد من ذلك، يتمنّون لو استطاعوا أن يسرقوا الخضاب من دم ضحاياهم المتدفقة من الشرايين.
وسنقرأ في الرواية أيضاً حديث الغربة والهجرة، ومكابدة المهجّرين طوعاً أو قسراً، وسيعرض الكاتب تجارة الآثار والنفائس والغاليات عند من يُفترض أنّهم حصن الوطن وحُماته. وغيرها الكثير من المواضيع التي تمسّ ما أسميناه “الربيع العربي” في منظومةٍ سرديةٍ لا تعنو من أيّ انفكاكٍ أو ارتخاء.
صدرت الرواية عن دار الآداب عام 2017، وتقع في 463 صفحة من القطع المتوسط، وقد انضمت إلى القائمة الطويلة لجائز البوكر عام 2018، وحسبي أن أقول لكم أنّي سوّدت ثلج خمس صفحاتٍ أثناء قراءتي الرواية على سبيل المراجعة، لكنّي آثرت أن أكتفيَ بما سبق لأمرٍ تعرفه عين اللبيب البصيرة بحال هذه البلدان وسقف حريتها، وأستغني عن إضافة المزيد لأقول فقط هي بحق رواية يجدر بألا تفوتكم.