" رأى توالي الربيع والصيف والخريف والشتاء ، كأن الزمن كله كان فواصل تافهة في فضاءات الأبدية الأكبر كثيرا ، خدعة ذكية مستحضرة لعرض شئ منتظم في الظاهر انطلاقا من عماء الفوضى ، او لتوفير منطلق يمكن أن يكون فرصة تجعل المصادفة تبدو كأنها ضرورة " .
نادرا ما أجازف عند اختيار رواية لقرائتها ، فمشاغل الحياة ومطالبها كثيرة ، والأدب الحقيقي الخالد الذي انتجه الانسان عبر العصور كثير بالمقارنة مع الوقت الذي يملكه المرء ، فمن الطبيعي أن لا أترك كتابا ألفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة وهو مضمون المتعة والفائدة لأقرأ مائة كتاب لا أضمن جودتها بل على امل العثور فيها على شئ بعد عناء .
وذلك هو لمن سأل سبب ندرة قراءاتي للروايات العربية والتي يعيش اغلب كتابها مراهقة أدبية باقية وتتمدد ولم أزل انتظر نضوج ثمرها الأدبي و لا احسبه قريبا ، وذلك أيضا سبب ابتعادي عن القراءة لروائيين معاصرين لصعوبة نجاح وانتشار الانتاجات الأدبية المعتبرة في ظل المعايير السائدة في وقتنا الحاضر فيكون الزمن وحده كفيل بانتشار الابداعات الأدبية الحقيقية وهذا درس مستمد من التاريخ قريبه وبعيده
ووفقا للاعتبارات السابقة فان اختياري لهذا العمل الأدبي كان من باب المجازفة فهو عمل معاصر منتشر وحائز على جوائز ادبية ( تزيد المجازفة مع هذا الاعتبار فلو انه غير حائز على مثل هذه الجوائز لكان الأمر ابعث على الارتياح ) وحاصد على اشادات النقاد والقراء على حد سواء ( وهذا اعتبار آخر يزيد من المجازفة ) وعنوانه " تانغو الخراب " فلك ان تتامل مقدار ما أجازف به .
دأبي عند قراءة كتاب يحمل مثل هكذا عنوان أن ازيد اطلاعي على ما أشار اليه ولذلك فلا ضير من مشاهدة بعض رقصات التانجو قبل الشروع في القراءة .
يترك " التانغو " للأجساد حرية التعبير عن ذاتها بتبادل الحركات فتشعر أن الراقصين بأجسادهم يحكون قصصا تتبدل فيها المواقف والاحداث عند كل وقفة او التواء .
فالتانغو كما يقولون هو رقص الافكار الحزينة او احزان راقصة يقود الى التأمل في المصير البائس .
فقد وفق الكاتب باختيار عنوان الرواية حتى لو انه لم يُضًمِنها ذلك المشهد الذي يقوم فيه ابطال الرواية برقصتهم في الحانة وهم ينتظرون قدوم ارمياس " رغم روعة المشهد من الناحية الأدبية والجمالية " أقول انه حتى لو لم تتضمن الرواية ذلك المشهد المتعلق بعنوانها لظل اختيار العنوان مبدعا ومتوافقا مع احداث الرواية .
يطل علينا الكاتب بابداع آخر بتضمينه عبارة كافكا الخالدة " في تلك الحالة ، يجعلني انتظار الشئ أخسره " كمقدمة لاحداث الرواية .
فمن ابداع الى ابداع نعبر الى اعماق الرواية ببطء شديد ، الفصول الأولى ثقيلة فالأحداث فيها قد تبدو مبهمة ، او قل متراقصة على انغام الأوكورديون فانت فعليا وانت تقرأ تشعر أحيانا بموسيقى في خلفية النص وهذا ابداع آخر يسجل للكاتب .
تصوير تفصيلي يجعل كل الحواس تقرأ ، يصف الكاتب المشاهد من زوايا متنوعة وصفا دقيقا يوضح أفكار وافعال الشخصيات بطريقة مميزة وفريدة ومن كافة الأبعاد المحتملة .
بنية روائية يمكن أن يقال عنها الكثير، غريبة بعض الشئ في بعدي الزمان والمكان ولكنها في النهاية مبدعة فانت تخرج من الرواية وفي ذهنك خارطة واضحة لاماكن الاحداث وتسللسلها الزمني رغم الغرابة في البنية .
اسقاطات اجتماعية ودينية لا حصر لها بين سطور الرواية ففي كل مشهد او حدث يمكنك ايجاد اسقاط ديني او اجتماعي او حتى سياسي .
على الصعيد الديني ( المخلص ، البيئة السائدة قبل قدومه ، الرؤى والهلوسات ، الارض الموعودة ، الهجرة ، التبشير بمذهب جديد ، المعجزات الكاذبة ، انبعاث الموتى ، الاشارات الى الوجود ونشأة الخلق ، المراقبة الدائمة .....) .
على الصعيد الاجتماعي ( العلاقات الأسرية المتحطمة ، عذابات الطفولة الشقية ونتاجاتها ، احتياجات الرغبات الملحة للطبقة الوسطى والعاملة في ذلك المجتمع ، الهروب من الواقع ، معايشة المصير البائس والاستسلام للظروف النفسية والاجتماعية ..... )
على الصعيد السياسي ( الثورة ، الروح الاشتراكية لانشاء المجتمع الجديد ، الزعامة المطلقة والدكاتورية لدى ارمياس ، خيبات الامل الجماعية ، الالعاب السياسية التي يمارسها ارمياس ، آثار الحروب ، نظرة المحكومين للحاكم ، نظرة الحاكم للمحكومين ، التقارير المرفوعة ....)
من عماء الفوضى ينطلق الكاتب مقدما فنه في وصف العالم الذي في مخيلته والذي يتطلب هذا الاتقان كله لرصد مساره المستمر في اتجاه واحد ، فيتدخل في الآليات الكامنة خلف جريان الأحداث الذي يبدو فوضويا في ظاهره .
من ابداع لابداع يقودنا الكاتب في عالم مخيلته ليصف لنا رحلته في خلق هذا العالم وشخصياته جنبا لجنب مع الأحداث نفسها وتطورها ، ليت شعري ، أيكون هناك عوالم أخرى يصفها الكاتب الى جانب هذه العوالم ؟ !
الكتاب يقدم رحلة في العوالم المتداخلة والمتراقصة في مخيلة الكاتب على شكل بنية روائية مستحدثة وفريدة في التسلسل الزمني "خدعة ذكية مستحضرة لعرض شئ منتظم في الظاهر انطلاقا من عماء الفوضى ، او لتوفير منطلق يمكن أن يكون فرصة تجعل المصادفة تبدو كأنها ضرورة " .