عندما أحب السفر عبر الزمن لرؤية الماضي، أشاهد فيلماً وثائقياً، وإن أردت رؤية تفاصيله من أماكن وشخوص أشاهد فيلماً سينمائيا، أما عندما أرغب أن أعيش داخله وسط شخصياته فإنني أقرأ رواية. أما إن قررت أن أظل حبيساً في ذلك العالم السحري لبرهة من الزمن فحتماً سأقرأ لكارلوس زافون.
لعبة الملاك، الجزء الثاني من سلسلة "مقبرة الكتب المنسية"، يعود الكاتب كارلوس زافون بنا ليأسرنا بسرده الساحر في مدينة برشلونة القوطية، قبل حوالي العشرون عاماً قبل روايته الأولى "ظل الريح".
ما زلت حبيساً في عالم كارلوس السحري المُكوّن من كلمات أثارت حيرتي إن كان ألقاها عليه وحي الإلهام أم وحي الإبداع! برشلونة التي أعشقها دون أن أسافر لها جسديّاً يوماً ما، رغم أنها في قائمة الدول التي أنوي زيارتها في يوم ما من أيام حياتي المتبقية في هذه الدنيا. سافرت إليها بروحي وخيالي للمرة الثانية مع زافون لكن السفر كان عبر الزمن، فرأيت برشلونة القوطية الكئيبة القاتمة الباردة الجميلة رغم كل السواد، ولا أفهم كيف أبدع هذا الكاتب في أن يجعلني أحب برشلونة وكأنني أزداد حُباً لتلك المدنية كُلما ازداد سوادها.! فاتحت الخريطة وفحصت الانترنت لأرى صوراً للأماكن التي يتنقل بينها الكاتب وتعيش فيها الشخصيات، من شارع راس رامبلاس مروراً بكنيسة سانتا ماريا دل مار وحتى منطقة ريبيرا. وكأنني أرتدي نظارة من نظارات الأبعاد الثلاثية تجعلني أرى تفاصيل كل شيء بوضوح في خيالي، المدينة التي تقبع في الضباب، تفاصيل المباني وتفاصيل الليل ومحطات الترام والقطارات، تهبّ عليّ نسمات من البحر تارة ويخنقني الجو الرطب تارة، وتكاد أطرافي تتجمّد من البرد القارص تارة أخرى، حتى شعرت بأنني شخص أعيش مع شخصيات الرواية بل وأكاد أخاطبهم بل وأصرخ كي أحذرهم أحياناً.
لمن قرأ رواية ظل الريح، أود أن أخبره أنك لن تجد هذه الرواية مشابهة لما قد قرأته، باستثناء أسلوب السرد المُبهر، فالرواية مختلفة تماماً شكلاً ومضموناً، لهذا فهاك احتمال ألا تعجبك الرواية.
رواية لعبة الملاك، غرائبية الأحداث، بها الكثير من الرعب الحقيقي، وبها الكثير جداً من الدماء والنهايات المروّعة والقاسية للشخصيات. هي رواية تعدد قصصها ما بين لعبة الكُتّاب ودور النشر التي تمتص دماءهم ومواهبهم، ولعبة الشيطان، ولعبة التلاعب بالأديان، عن صداقات غير متكافئة وصداقات رائعة، عن قصة حُب، عن مصائر متشابكة، عن الكتابة ذاتها.
حبكة متشابكة مُبهرة، ونهاية تظل حتى آخر صفحات الكتاب تلتهم عيناك الحروف بنهم مجنون كي تعرفها رغم أنك قد لا تستطيع الوصول لها.!
الرواية تنقسم إلى ثلاثة فصول
الفصل الأول فيها قوي... الفصل الثاني منها كان به بعض التطويل... أما الفصل الأكثر إثارة ومتعة كان الفصل الثالث.
الشخصيات... الشخصيات... الشخصيات، لن أتحدّث عنها كثيراً للأسف كي لا أحرق أحداث الرواية، ولأنني إن كتبت عنها فسأحتاج ضعف مساحة المراجعة كي أكتب عنها، مع العلم أنني لن أكتب عن شخصيتان تحديداً كونهما نقطتا التماس مع رواية ظل الريح، رغم جمال هاتان الشخصيتان.
دافيد مارتين شخصية البطل الكاتب الذي يبلغ من العمر 30عاماً، وأحياناً تظن أنه يبلغ من العمر 50 عاماً وأحياناً أخرى تعتقد أنه يبلغ السبعون عاماً. رمادي الروح، تتألم من أجله، تتفهّم معاناته ومعنى الكآبة التي يدور في رحاها. أحببته وأشفقت عليه كثيراً، وأحببته عكس شخصية البطل دانيال في ظل الريح.
إيزابيلاً... آه ثم آه ثم آه ثم آه من هذه الشخصية الآسرة، شخصية مُبهرة جداً، جميلة، تجرّ منك ابتسامة، وتجبرك على مواساتها، وقد تدفع عيناك إلى البكاء، شخصية تُحرك فيك مشاعر تكمن في جزء ما من روحك، كأب أو كزوج أو كابن أو كرجل.!.
الرواية بها القليل جداً من المشاهد الإباحية، ولكنه على الأقل مذكور باقتضاب وبشكل غير جارح، وللأسف أفضل بكثير مما موجود في الروايات العربية تلك الأيام.
هناك بعد عبارات الإلحاد المتناثرة بقوة في الرواية، والتي لا أتفق معها، يجعلني ذلك أن أُخفّض تقييمي للرواية بنجمة كاملة.
هناك بعض الفجوات في الحبكة، أو قد تكون هذه الفجوات بسبب عدم وجود تفسير لدوافع الشخصيات لأفعالهم في بعض المواقف، وللأسف هناك بعض النهايات غير المفهومة ولك يتم التوضيح الكامل لها. لكن ما يعوّض هذا أن الجزء الرابع سيكون له نقطة تماس مع هذه الرواية والتي من المفترض أن توضح لنا أو تربط لنا الخيوط غير المفهومة.
الرواية بها العديد من الرمزيات والتي قد لا تدركها إلا بعد التفكير فيها كثيراً، بها الكثير من الألغاز ولعلّ اللغز الأكبر هو السؤال الذي حار الجميع في إجابته، هل هي لعبة ملاك أم لعبة شيطان؟
الترجمة...
تحية إجلال للمترجم المُبدع معاوية عبد المجيد، الترجمة جداً جداً رائعة، وجميلة ومُعبّرة، وأعتقد أن المترجم عاني كثيراً كي يستطيع نقل هذا الجمال السردي المُبهر للغة العربية دون الإقلال من قيمته، مصطلحات سلسة و غنيّة. شعرت فعلاً بالمجهود الجبّار الذي بذله، وأشكره بشدة على هذا الإبداع كي نستطيع قراءة هذه الرواية الرائعة.
رواية لعبة الملاك، رواية تدفعك دفعاً كي تنهي صفحاتها الـ 680 بكل حماس، رواية تأتيك في أحلامك كي تتفكّر فيها، وتقتحم عليك يقظتك، لتجد نفسك تردد بلا انقطاع أسماء شخصياتها. رواية ممتعة ومشوّقة جداً.
وأخيراً ... إن قررت قراءة الرواية بعد مراجعتي هذه أيها القارئ، فنصيحتي لك أن تنتبه، فقد تظل حبيساً في عالمها لزمن لا يعلمه إلا الله.
اقتباسات أعجبتني:
“هل تعلم ما هي ميزة القلوب المحطمة؟ أنها تتحطم فعليا مرة واحدة، الباقي بعد لك مجرد خدوش”
“لا أعتقد أن لديك العديد من الاصدقاء، ولا أنا أيضا. أنا لا أثق بأولئك الذين يقولون أن لديهم الكثير من الأصدقاء. أنها علامة مؤكدة أنهم لا يعرفون حقا أي أحد“
“من المستحيل العيش في حالة مطولة من الواقع، علي الاقل بالنسبة للبشر. نحن نقضي وقت جيد من حياتنا نحلم، بالأخص بينما نحن مستيقظين”
“كل شئ هو حكاية يا مارتن، ما نؤمن به، ما نعرفه، ما نتذكره، وحتي ما نحلمه. كل شئ هو قصة، رواية، أحداث مسلسلة بشخصيات تتواصل بمشاعر متضمنة. نحن فقط نقبل كحقيقة ما يمكن أن يروي”
“الأمثال علمتنا أن الإنسان يتعلم ويستوعب الأفكار والمفاهيم والمبادئ من خلال الحكايات، من خلال القصص، ليس من خلال الدروس أو الخطب النظرية”
" دخلت إلى المكتبة واستنشقت عبير الكتب المكون من السحر والأوراق، واستغربت كيف لم يخطر على بال أحد حتى الآن أن يعبئه في زجاجة عطر."
" لو استطعنا رؤية حياتنا على حقيقتها، ليوم واحد فقط، من الفجر حتى الغروب، بكامل الوضوح، لانتحرنا أو فقدنا رشدنا."
" إن الوقت يُصلح كل شيء، عدا الحقيقة.!"
أحمد فؤاد