كنت أؤجل اكتشاف الأدب الخليجي لأجل غير مُحدّد كواجب عليّ أن أزوره وأطمئن على تواجده، للرابطة اللسانية بيننا (والأدب العربي الغير مصري عمومًا- يا للخسارة، أعرف!)، حتى ظهر اسم هذه الرواية في تايملايني على تويتر، وكانت الآراء شبه متفقة بإيجابية على الرواية، واكتشفت أنني تأخرت، لا في قراءتها، ولكن في التعرّف عليها. وقررت قراءتها فورًا.
في البداية حينما ذُكرت كلمة "غترة" فقد ظننت أني بشكل رسمي، قد قرأت أدبًا خليجيًا، وشعرت بشعور الفاتح، وسعدت أن أدبًا حداثيًا بهذا النضج يجد مكانه في هذه المنطقة المثقلة بماضيها وتقاليدها وتراثها الأدبي.
والآن وبعد انتهائي من الرواية لا أجد منها ما ينتمي للبيئة سوى النذر القليل، وأن البيئة ليست ما يشغل الرواية، بل ما هو أبعد- إلى حدود إنسانية بعيدة، فكان خير للأدب الخليجي والأدب العربي عمومًا.
***
الرواية بديعة، مرهفة، وآية من آيات الذكاء في استنباط ما وراء الحواجز الإنسانية. لا أذكر عدد المرات التي ضحكت فيها للتطابق المدهش الذي بيني وبين أحد الشخصيات -لا سيما ك.- وشعرت بالغيرة أنه فهمني أكثر مني! أو وصفًا شديد التعقيد صيغ بأسلوب سهل كأنه ليس معقّدًا أصلًا.
● لا أعرف تصورًا واقعيًا لأدب كافكا أفضل مما قُدِّم في هذه الرواية، بل أعتقد أن وظيفته في هذا أكثر تعقيدًا، فبدون أن يتحوّل إلى حشرة عملاقة، استطاع أن يجد طريقه إلى الطبيعة النفعية السوداوية في العلاقات، كان مقنعًا جدًا، صادقًا بشكل مفجع. طبعًا بدون انتقاص شيء من قيمة كافكا، فكافكا في النهاية حكّاء يحب الخلق، وكتابة قصة عن حشرة عملاقة لهو أمر مثير لشهية رجل يشتغل في الخيال. العلاقة النفعية طبعًا ليست شيئًا متجذّرًا في العلاقات الأسرية، لكن كيميائيًا هناك نسب في هذا المركب المعقد.
● كنت أريد أن أنتقد كراهيته لكل ما حوله خصوصا في علاقاته داخل الشركة، وكأن هناك مغالاة في الكراهية، لاغية كل الأواصر الإنسانية ولو بسيطة (ليس الحب، ولكن التقاطعات الإنسانية)، فتذكّرت أني في مرحلة ما من حياتي العملية كنت أكره عملي والشركة التي أعمل فيها والزملاء الذين أختلط بهم يوميًا، ولا أرى أي أواصر إنسانية تربطني بهم، وربما نسيت هذه المرحلة أثناء إطلاق هذا الحكم، لكني أطلقته وأنا في وضع أفضل وأكثر رضا، فتنبّهت إلى أن بعض الأحكام التي أطلقها ربما منبعها هو إسقاط مباشر على خبراتي أنا في الحياة بما فيها من محدودية وضيق أفق وقلة تمرّس، بغض النظر عن تجربة الكاتب الخاصة، فتعلّمت (أتمنى!) أن أكون أكثر حذرًا في إطلاق أحكام عن التجارب الإنسانية الخاصة.
● أعجبتني جدا شخصية الجد؛ وجودها كان هام أيضا لتحرر نوايا ك. من عدوانيته المطلقة للمجتمع، فالعلاقة المتبادلة بين ك. والجد أكدت كراهيته للافتعال والتصنع، المتفشيين في كل ما حوله، في مقابل الصدق والصراحة، حتى لو صاحبتهما فظاظة وقسوة، فذلك أفضل من علاقته مع أهل خطيبة أخيه العائمة في التصنع الاجتماعي.
طبعًا الرواية تشع ذكاءً وألمعية لكنها مع ذلك ليست إلهامًا متصلًا، وقد أغض البصر عن بعض ملاحظاتي عندما تكون محصلة قراءتي لها استمتاعًا ودهشة، لكني أحاول أن أكتب كل ملاحظاتي على الكتب التي أقرأها في المراجعة وكل ما يخطر على بالي، إن أتيح لي ذلك، لأن هذا غالبا ما يبقى لي من الكتاب بعد قراءته، فبعد شهر أو أكثر سيتلاشى هذا الكتاب من رأسي، وبقاءه معي يتحدد بذكرى عنه أو بشيء كتبته مرتبط به:
● بالحديث عن رسم الشخصيات وكيف أنه أتقنها، وكيف أنني أحببت شخصية الجد، كانت شخصية الأب عكس ذلك؛ كانت سمته الرئيسية التي حددت شخصيته: "لا تبالغ" وكان هذا تقريبًا رد فعله على كل شيء، فأدركت أن الكاتب يريد أن يبني "براند" الشخصية على هذه الكلمة، وهذا لا يجعل قبولها في نفسي -على الأقل- ذا صدى، فالبراند لا يُبنى بالشعار وحده، ولكن هناك مقدمات تاريخية، فأنت مثلًا عندما تذكر أمامي كلمة "نوكيا" فأنا أدرك الكثير ما يختصر الكلام، ليس في قوة كلمة "نوكيا" في حد ذاتها ولكن لأن المقدمات التاريخية تحمل على رأسها اسم البراند. فلا تتوقع أنك عندما ترسم شخصية وتحدد بضع كلمات تكررها أني سأقنع بالأفعال التي في هذه الكلمات.
● في مواقف قليلة كان مبالغًا في الوصف، مثل زيارته للطبيب في صباه مع أبيه؛ وصف ميكروسكوبي لكل شيء، لجلسة الطبيب، لوضعية ذراعيه.. إلخ، وصف يؤدي بدوره إلى وصف، مثل لعبة الماتريوشكا الروسية، بشكل لا فائدة منه سوى إفراغ طاقة أدبية زائدة، يبدو أن الكاتب حضرته الكلمات والأحداث بتدفق بشكل من الصعب التخلي عنها، هي لحظات تحتاج بعض الشجاعة من الكاتب أن يلقيها جانبًا رغم ما فيها من صنعة وحبكة. قرأت في مقال يتحدث عن ليوناردو دافينشي أن من أسباب تفوقه ونبوغه أنه لم يهتم بالأشياء قدر اهتمامه بالرابط بينها، وهذه هي المشكلة في مواقف كهذه؛ اهتمام زائد بالأشياء بدون وجود دور فاعل لها في الرواية ككل.
هذه بضع ملاحظات مرت عليّ أثناء قراءتي الرواية، ووجدت أنها ربما تكون ذا قيمة في تقييمي للكتاب.
لكن مجملًا، هذه واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها إلى الآن.