أنهيته قبل يومين، وما زلت أتذكر أحداثه بشعور جميل، رغم أشياء به حسبتها ستحول دون ذلك، ولكن القصّة الجيدة في النهاية انتصرت على سائر هذه الأشياء الهامشية، فهذا الكتاب مذكرات حقيقية جاءت على ثوب رواية، وما ذاك إلا لأن فنّ الرواية هو الفن الرائج الآن، ولأن مؤلفة الكتاب قالت إنها أخرجته على هيئة رواية من أجل أن تقترب من شريحة القرّاء الشباب، إلا أنه مع ذلك إن امتدّت يد التعديل إلى كلمة "رواية" المطبوعة على الغلاف، وحوّلتها إلى "مذكرات"، وقرأها أحدهم بهذه الصفة الأخيرة، لدهش كثيرًا إذا عرف في النهاية إنه كان يقرأ طوال هذا الوقت رواية متخيّلة!، فشخصيات العائلة السويدية والأصدقاء والأماكن والأحداث، كلّها حقيقية وبأسمائها الشخصية، ودون تدخل روائي فيه، ثم أنها "روايتها" الأولى!
وهي قصة سيدات عائلة سويدية، الجدّة الكبرى «رانهيلد»، وابنتها الجميلة «هيلدا»، التي تزوّجت قاضيًا وانتقلت معه إلى مصر حيث كان يعمل في المحاكم المختلطة، وذلك عام 1926، وانتقلت معه ما بين المنصورة والقاهرة والإسكندرية، وأنجبت منه خلال تلك الفترة ابنتها «إنجريد»، قبل أن تعود العائلة بأفرادها الثلاثة إلى السويد مرة أخرى قبيل قيام ثورة يوليو وأحداثها المضطربة التي سبقتها وموجة العداء لكل ما هو أجنبي التي اجتاحت مصر وقتذاك والتي أدّت إلى مغادرة الكثير من الأجانب إلى بلادهم التي ربما لم يروها من قبل بسبب طول إقامتهم الطبيعية في مصر قبل ذلك، والحالة السياسية المتردية التي كانت تسير في ظلّها الأحزاب المصرية المتصارعة، وإغلاق المحاكم المختلطة، فهاجرت الأسرة السويدية التي لم تستطع الاستمرار وسط هذا الجو المقبض، ثم تزوجت «إنجريد» رجلاً من بلادها، يعمل في السلك الدبلوماسي، وأنجبت منه ابنتها «آن» – صاحبة هذا الكتاب - ثم مرّت بها الحياة بعيدًا عن مصر وتتوفى الجدّة «هيلدا»، وتمضي الأحداث عند ذلك في تصوير عزلة مصر عن الغرب إبان حكم جمال عبد الناصر، وزيادة الفقر وتدهور قيم الأخلاق خلال ذلك ورحيل الجاليات الأجنبية واستشراء القبح والمباني الخراسانية الاشتراكية وانطفاء أكثر معالم القاهرة الجميلة في العشرينيات، ثم يأتي عام 1970 وتسمع عائلة إنجريد وهي في السويد عبر التليفزيون خبر وفاة عبد الناصر، فلا تتمالك «إنجريد» نفسها وتهتف: "أخيرًا!"،، فيقول زوجها لها: "ربما ستعود الديمقراطية إلى مصر الآن!"، وفي الكريسماس من تلك السنة يقررون زيارة مصر، لتستعيد الابنة «إنجريد» ذكريات طفولتها التي قضتها هناك، وكانت مصر وقتذاك تعيش في ظلال الحداد والنكسة والتي لما تتخلص منهما بعد في تلك السنوات الأولى من السبعينيات قبيل حرب أكتوبر، وكانت حالة البلاد تثير الأسى، حيث توارت أو كادت معالم قاهرة العشرينيات وانتصرت الفوضى والقبح عليها
“
وبمجرد أن وضعنا حقائبنا في الفندق توجّهنا إلى جاردن سيتي، إلى المنزل الذي كان يقطن فيه آل سالين، وضغطنا على زر الجرس، حتى أتانا صوت رجل من خلف الباب: مين؟!
حاولت إنجريد أن تجيب بقدر المستطاع بلغتها العربية الركيكة لتخبر الرجل أنها كانت تعيش هنا في طفولتها، أخيرًا فتح لنا الباب رجل غير مهندم يرتدي شبشبًا، وبنطلون بيج قذرًا، وقميص أبيض مبقّعًا
قال الرجل: "تفضلوا!"، وأدخلنا إلى الشقة التي بدت في حالة لا يُرثى لها، حيث انبعثت منها رائحة الأتربة، وزيت الطعام، وبينما تناثرت الملابس هنا وهناك، تحدثت إنجريد مع الرجل باللغة العربية، وأردت أن أترك المكان بأسرع ما يكون، فشكرنا الرجل على سماحه لنا بالدخول، ثم خرجنا إلى ليل القاهرة المنعش
وقالت إنجريد في رثاء: لا أستطيع أن أصدّق أن هذا المكان هو نفس المكان الذي عشت فيه
“
ثم تعود «إنجريد» إلى مصر مرة أخرى بعد تلك الزيارة بوقت قصير، فالصلة الغريبة بينها وبين مصر ستبرز مرة أخرى بغرابة، فالأخبار أتت بتعيين زوجها سفيرًا للسويد في القاهرة!، وبذلك استعيدت صلة الابنة «إنجريد» بمصر مرة أخرى، وستقيم بها هذه المرة إقامة متطاولة مثلما فعلت جدّتها «هيلدا» التي كانت زوجة قاضي في المحكمة المختلطة، ، وستعيش الحفيدة «آن» مراهقتها وتتمم دراستها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قبل أن تغادر هي مصر وكذلك عائلتها في بدايات الثمانيات، وتتزوج وتنجب في الخارج، إلى أن تعود مرة ثانية وثالثة ورابعة إلى مصر في زيارات قصيرة للتواصل مع ذكريات حياتها الماضية وأصدقائها السابقين، ولحضور حفلات توقيع كتابها هذا، حتّى!، بمكتبة ديوان بالزمالك ووسط بيئتها القديمة وأصدقائها
ومن الصعب ألا يعجب أحد بهذه المذكرات، رغم أسلوب الترجمة الذي كان يقترب في كثير من الأحيان من الترجمة الحرفية الباردة، ولكن لم يكن به بأس مع تقدّم الاعتياد عليه خلال الصفحات المتطاولة، ورغم حكاية الحفيدة لأحداث حياتها والتي أخذت الجانب الأكبر الطاغي من هذا الكتاب، ولا عجب!، فهي تتحدث فيه عن نفسها، ومن يقاوم الحديث عن نفسه في مذكراته!، ورغم حياة مراهقتها والتي تمثل مراهقة جيل السبعينيات النموذجية والمنفتحة والتي نعرفها من خلال قصص وأفلام هذه الفترة، وما أدراك ما مراهقة السبعينيات وسلطان ثقافة الهيبز عليها!
و سار أكثر الكتاب كما ذكرت في حكاية الحفيدة لأحداث مراهقتها التي تميل إلى الجموح والاستقلال التام أو الموت الزؤام، وبات مؤشر الرضا عندي حول الكتاب ككل ينخفض في إثر كل صفحة، إلى أن وقبيل انتهاء الكتاب بمائة صفحة تقريبًا، افتتحت الحفيدة الفصل الجديد من كتابها بهذه الكلمة:
“
كنت أحيا أنا وأصدقائي المصريون حياة خالية من الهموم، كنا نذهب للسفر، والمعسكرات، والغطس، ونتقابل في النادي الرياضي في أوقات الفراغ حيث لا عمل ولا استذكار، مَن يريد التخلي عن مثل هذه الحياة التي حظيت بها في مصر؟، كنت أصارع من أجل البقاء في مصر، ولم يحظ غالبية المصريين بتلك الحياة الرغيدة التي نعمت بها أنا وأصدقائي المصريون، كانت الفجوة بين الطبقات تتزايد بمرور الوقت خاصة في ظل الانفتاح الاقتصادي ، والفساد الذي كان يتفاقم يومًا بعد يوم
قالت لي والدتي، مشيرة إلى أن أيامي في مصر أصبحت معدودة: نحن نعيش على قنبلة موقوتة!
لم أرد أن أستمع إلى مناقشات والدتي التي بدت كئيبة، كنت أغلق عيني وأسدّ أذني حتى لا أرى ولا أسمع شيئًا غير الذي أريد سماعه
“
ومن ها هنا إلى آخر صفحات الكتاب تحاول المؤلفة ملاحظة الاختلافات التي أدّت بمصر إلى هذه الحالة الراهنة مقارنة بماضيها الزاهر، وإن كنت أحسبها أساءت تأويل بعض المظاهر الخارجية عند المصريين، وأساءت الظنّ كذلك بكثير من مظاهر الإسلام فيه، ومالت إلى تفسيرها تفسيرًا عجولاً، ففي زيارتها الأولى بصحبة والدتها بعد انقطاع سنوات لمصر كانت عينها دائمًا على الأزياء حيثما تذهب، وتقول مثلاً إنها لم تر غير واحدة أو اثنين مغطاة الرأس أو مرتدية الزيّ الوهابي كما وصفته، وهي في المطار، وكان ذلك بعد أحداث 11 سبتمبر والدعاية السيئة ضد الإسلام الأصولي في الغرب، وقبل ثورة يناير بسنوات يسيرة، وبدا لها أن هذا دليل أن الأصولية لم تنشط بعد وأن الوضع في الغرب مبالغ فيه تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط:
“
قلت لوالدتي: يبدو أن الهوس بالإسلاميين في أوربا لا أساس له من الصحة
قالت والدتي وقد وافقتني الرأي: يميل الناس إلى التعميم أحيانًا، لقد تحسّنت أشياء كثيرة هنا كما أرى
“
وبدا لها أن مصر تسير في طريق جميل، أتذكرون زيارة والدتها لبيتها في جاردن سيتي في بداية السبعينيات واصطدامها لما آل إليه حال بيتها القديم، لقد زارت حفيدتها وحدها هذه المرة تلك الشقة في جاردن سيتي للمرة الثانية بعد هذه السنوات المتطاولة وفي الألفية الجديدة، وصعدت السلالم وتجرأت وقرعت جرس الباب
“
قلتُ: آسفة لتطفلي، اعتاد أجدادي العيش هنا في هذه الشقة منذ زمن بعيد، هل تمانعين أن ألقي نظرة على الشقة التي سكنها أجدادي ذات يوم؟!
أجابتني السيدة التي كانت في منتصف العمر وقد اعتلت الحيرة وجهها:
بكل تأكيد!، تفضلي ..
كان ذلك هو الكرم المصري المعهود الذي لا نسمع عنه في الغرب، تبادلت معها أطراف الحديث وتبيّن أنها خريجة الجامعة الأمريكية مثلي، ودرست العلوم الاجتماعية أيضًا، ..، وأخبرتها عن اهتمامي بوضع المرأة في مصر، فذهبت وأحضرت من مكتبتها الرسالة التي أعدّتها لتناول هذه القضية، كسا التراب الرسالة التي حملت عنوان: "الأصولية والإسلام والمرأة"، وقالت ..: فلتقرئي هذه الرسالة، وستجدين بعض الإجابات التي تبحثين عنها
“
ثم عادت، وانطلقت بعد سنوات قليلة شرارة الربيع العربي عام 2011، وحدث ما حدث بعد ذلك، واقترب كذلك هذا الكتاب من نهايته، فجاءت إلى مصر مرة أخرى بعد أن أصبحت محطّ الأنظار، أخذت تعدّد وهي في المطار وفي الشارع المحجّبات وأغطية الرأس، وتقول ها هي واحدة .. وثانية .. وثالثة .. ورابعة، حتّى لقد سألت صديقها الذي أقلّها من المطار: هل ثمّة طائرة ستقلع بعد قليل إلى السعودية بهؤلاء النساء؟!، ولمّا تبدّد هذا الظن ..
“
صحت بتعجب: يا إلهي!، ما الذي حدث لهذا البلد!
“
.
.
هناك الكثير في هذا الكتاب حقًا، وأكثر السيدات الثلاثة اللاتي أحببت سيرتهن في هذا الكتاب هي الجدّة «هيلدا» بالتأكيد، بحياة القاهرة في الثلاثينيات والأربعينيات وعادتها وتقاليدها وعالمها الاجتماعي ومحلاّتها وحياة البيوت والخدم وتربية الأبناء، ولا أدري، ولكن أظن أن «هيلدا» كتبت مذكراتها حول حياتها في مصر أو ربما في بضع خطاباتها، وبهذا استطاعت الحفيدة من خلال هذا الإرث أن تكتب ما كتبته عن جدّتها بهذه الخصوبة والألوان الزاهية، لقد أحبّت جدّتها، والتقت بها بعد موتها في زمن غير الزمن عندما دخلت الحفيدة مكتبة "ليفر دو فرانس" في الزمالك، التي كانت تتردد عليها جدّتها قديمًا منذ افتتاحها في الأربعينيات، لتشعر وفي لحظة خاطفة وسط الكتب الفرنسية المحيطة بها إنها واقفة الآن تمامًا حيث وقفت جدّتها من قبل
وهو كتاب جميل