بين 1936-1939م تلقت الحركة الثورية الفلسطينية ضربة ساحقة في النقاط الثلاث التي تبلورت منذ ذلك بصفتها المعضلة الأساسية التي يواجهها الشعب الفلسطيني : القيادات المرجعية ، والانظمة العربية المحيطة بفلسطين ، والحلف الإمبريالي الصهيوني ، وسوف يترك هذا المثلث بصماته على تاريخ الحركة الفلسطينية منذ 1936م بصورة أوضح مما كانت عليه في أي وقت مضى . إن عمق التجربة الوطنية الفلسطينية التي تفجرت عام 1918 م ، وكانت تترافق بصورة أو بأخرى مع الكفاح المسلح ، لم تستطع أن تعكس نفسها على البنية الفوقية للحركة الوطنية ، التي ظلت تحت هيمنة القيادات الإقطاعية .
بهذا المثلث البسيط الذي رسمه غسان في بدايه تلك الدراسة ، استطاع من البداية أن يجعل القارئ يضع يديه على خيوط وأبعاد القضية ، حتى لا تتماهى الحقيقة في نظره بعد ذلك ، وكي لا تتسم الأمور في نظره بالميوعه ، فكانت المحاور الثلاثة التي يرى غسان بأنها تمثل أبعاد المشكلة الفلسطينية ، والتي ألقت بثقلها فيما بعد على شكل الثورة ، وساهمت بشكل أو بآخر في أسباب ونتائج الثورة أيضًا ، فمثلت هذه المحاور " مسمار جحا " ، الذي منه انطلق غسان في الحديث عن ثورة 36 في فلسطين .
" غسان في دراسته " تلك ارتكز بقوة على العامل المهجور كثيرًا عند الحديث عن الثورة ، أو حتى القضية الفلسطينية عمومًا ، فتحدث كثيرًا عن الفلاحين والعمال والفقراء ، الذين على عاتقهم وبهم قامت الثورة ، والذين تعرضوا أيضًا للاستنزاف الاسرائيلي ، فيكاد يكونوا الوحيدين الذي ذاقوا مرارة الاحتلال كثيرًا ، وكيف شاهدوا بأعينهم مدى التفرقة التي يقيمها الاحتلال بينهم وبين اليهود أنفسهم ، ورغم ما عانوه من شظف العيش واضطهاد الاحتلال إلا أنهم كانوا العنصر الفعال في المقاومة فلم يتوانو عن إعلان التحدي والمقاومة المسلحة ، وهذا ما لمسناه كثيرًا في قصص غسان كنفاني ، فيقول : إن كثيرًا من الفلاحين في انتفاضة عام 1929م و1933 ، باعوا أراضيهم للملاكين العرب الكبار ، كي يشتروا بأثمانها سلاحًا لمقاومة الغزو الصهيوني والانتداب البريطاني .
الثورة الفلسطينية كما يقول غسان ، أُرغمت على حمل السلاح لأنه لم يعد بوسعها أن تظل متربعة على سدة هذه القيادة في وقت وصل فيه التناقض إلى شكل صدامي حاسم ، لكن سرعان ما خفت صوت الثورة ، وأضحت تلك الحرارة المشتعلة بنار الثورة رمادًا لا روح فيه ، إما لضعف في التنظيم ، أم خيانة الدولة العربية ، أم خيانة من بعض القيادات الفلسطينية ، والتي في مجملها لن تخرج عن الأطر الثلاثة التي قالها غسان في البداية .