عبر خطٍّ تَنَبُّئِيٍّ تخطُّه «كلثوم» على رمالِ أرضٍ خُواءِ نسير، ونتساءلُ مع كل خطوةٍ يخطوها الطارقيّ «غزال صيَّاح» إن كانت ستتحققُ نبوءةُ «كلثوم» فيه، فيتجاوز الصحراءَ إلى المدينةِ التي يجهلها بقدر علمِه بالصحراءِ الفسيحةِ الموحشةِ التي توحَّدَ منعزلاً بأهله وخدمه فيها، مدافعًا بعزلته التقدُّمَ المدنيّ المزدحم ببهائمَ بشريةٍ لا تملك العيشَ إلا ضمنَ قطعانٍ حسبَ رأيه في «الساحليين» الذين لا يعدُّون «الطوارق» إلا هوامشَ زرقٍ وقفتِ الفروقاتُ العرقيةُ والثقافيةُ حاجزًا منيعًا بين كليهما.
تكشف رواية «طوارق» اللثام عن «الأماهق» أو «الأمازغ»، السلالة الأسطورية التي لم يتمكن الفرنسيون - طوال زمن احتلالهم لبلادهم - من إرغامهم على إماطة اللثام عن وجوه رجالها الذين كان «غزال صيَّاح» أو «غزال صيّاد» أحدهم، ذلك «الإنموشار» الأصيل، الحر، النبيل، الذي تحترمه الصحراءُ وتهابُه بقدر ما يعرفها حتى ليكاد يحصي رمالها لفرط معرفته بها! هذا مع جهله التام بما يجاوز تخومها، ولا سيما المدينة بحضارتها المادية وماجرياتها التي كان حصول بلاده على الاستقلال من الاحتلال الفرنسي أحدها، فلم يعرف عن تحرر بلاده من الاستعمار إلا بعد عشرين عامًا من حصوله، أو بالأحرى بعد يومين من استضافته «عبد الكبير»، أحدُ مستنصرَيه الَّذَينِ قُتِل أحدُهما، وانتُزِعَ ثانيهما منه عنوةً، ليبدأ رحلةَ الانتقام من الإهانة التي لحقت بـ«الإموشار» الأنوف، المحكوم بسنن أسلافه، والمطارَدَ الخارق الذي لم يعجز أن يتحول في رحلة الانتقام إلى حجرٍ رابضٍ بقفرٍ حارقٍ لا يفكر البتَّةَ، ولا يتذكَّر، ولا يتخيَّل، ويكاد أن لا يتنفس ليتغلَّبَ على القيظِ والظمأ، وعلى حاجته للتبوُّلِ أو التعرُّقِ، بل يتحوَّلُ إلى حرباءَ - إن احتاج إلى الحركة - كي لا يستهلكَ مخزونَه من الماء!
هكذا يأخذنا الكاتب الإسباني «فيكيروا» إلى بقعةٍ بيضاءَ في الخريطةِ، يتفاداها المستعمِر الفرنسي على الرغم من احتلاله لها كما تتفادها الطيور المهاجرة، أرض خواء، نعتلي معه كثبانها الرملية، ونسير على سهوبها، وسباخها، وما بين صخورها، نحذر عشش الحيايا والعقارب ونحن نجوبها، ونحبس أنفاسنا في مطاردات لا تنتهي حتى آخر سطر منها.
أرضٌ قفرٌ تجمعُ مفارقاتٍ قِيَمِيَّةٍ عجيبة، فيحتجبُ رجالها خلف لُثُمِهم، في حين نساؤها سافراتٍ حتى عن رغباتهن في حفلات العزَّاب الأشبه بكار عُهرٍ يرتَدنَهُ مع رجال أجانب رغم الدين الإسلامي السُّنِّي المالكيّ الذي يعتنقونه!
أرضٌ موازينُها مقلوبة، فيُعدُّ ما هو عادلٌ في قوانينها تمردًا ضد السلطة القائمة في قانون الدولة التي تنضوي تحت لوائها!
وظروفُها المناخيةُ القاسيةُ تتأرجحُ في يومٍ واحدٍ بين فصلَينِ متطرفَينِ يتحديانِ الزمنَ وهما يتناوبانِ على شعابِ «الهوايلا» الجحيميةِ الصقيعيةِ! فتجاوزُ درجتُها القصوى في ظهيرتِها الستِّينَ درجة جهنمية، في حين تهبطُ إلى خمسِ درجاتٍ صقيعيةٍ في فجرها!
فضلًا عن منفى «عدوراس» أو «است الشيطان» الذي يعاقَبُ بالعملِ فيها حثالةُ الجنودِ، ولصوصُهم وقتَلَتُهم!
ومن أعجبِ مفارقاتِ الروايةِ العجائبية، يقين «غزال صياد» الراسخ بأن «الإموهاغ» سلالةٌ مختارةٌ من اللهِ، اصطفاها لتتسيَّد أعلى طبقةٍ مجتمعيةٍ من طبقاتِ الطوارقِ الأباةِ النزهاء، لكنَّهُ لم يتردَّدْ في أن يحوِّل دهمائيةً تنتمي إلى طبقةِ «العكليين» الدنيّةِ - الذين ما خُلقوا إلّا ليكونوا خدمًا جبناءَ، ولصوصًا معتدين في اعتقاده - إلى زوجةٍ له! ضاربًا بالفروقات الطبقيَّةِ عرضَ جباهِ المعترضِين من كبارِ «الإموهاغ»!
لكن الكاتب الإسباني لا يتورع برأيي عن تزييفِ تاريخِ «الطوارقِ» الذي يعرفُه معرفةً قديمةً سابرة، إذ استوطن تلك الصحراء مع والده منذ نعومة أظفاره، فيزعم أن انحرافات الطوارق الأخلاقية منسوبة إلى اتّباعهم بوفاء لتعليمات نبينا «محمد» ، كحفلات العزاب التي يجتمع الفتيات والفتيان للعشاء على ضوء الصّلاء فيها، فيتسامرون بالحكايات ويرقصون ويغنون في مجموعات حتى ساعات الفجر الأولى، وفي نهاية العشاء يختفي كل زوجين في العتمة لإرضاء رغباتهم.