بداية يجب التوضيح أن هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية لابراهيم عيسى، بل هوعبارة عن لقطات، لقطات مكتوبة وأخرى مصورة تشغل كل منها صفحة أو صفحتين على الأكثر، خاب أملي في المكتوب المفترض أنه عصارة حكمة سنين إبراهيم عيسى الخمسين، واستلطفت الصور الكثيرة بطباعتها الفاخرة التي تستعرض مراحل حياة عيسى المختلفة.
نكأ علي هذا الكتاب جراحا وقلب مواجعا نظرا لعلاقتي الملتبسة بابراهيم عيسى، وهي علاقة قاريء بكاتب كان يعتبره مثله الأعلى وبوصلته، وكان له دور في تشكيل فكره وشخصيته وكاد أن يكون له دور في تغيير مسار حياته.
ما سأفصله في السطور المقبلة التي كتبتها منذ أكثر من عامين ردا على سؤال صديقة سورية -فك الله كربها وطمنأنا عليها- عن رأيي في إبراهيم عيسى ومواقفه وتحولاته، فجاء ردي سردا لرأيي ورؤيتي الشخصية البحتة لما كان وما جرى لإبراهيم عيسى ولمصر في ذات السياق، وهو ما لم أكن متحمسا لنشره من قبل لقناعتي الشخصية بعدم أهميته لغيري وغير السائلة الكريمة، وتجنبا لوجع دماغ قد يجره علي النقاش العبثي حول رأيي وتحليلي الذي أقر بتواضعه وذاتيته، مع عزوفي التام عن الدخول في أي سجال وجدل حول ما ورد فيه، إلا أنني تذكرته وعدت إليه بعد قراءة هذا الكتاب ورأيت نشره كما هو، حيث لم أجد أفضل منه تعبيرا لما دار بخاطري بعد قراءة الكتاب بل ومنذ عرفت بصدوره في الأساس:
بدأت معرفتى بإبراهيم عيسى و متابعتى لكتاباته منذ أكثر من 20 عاما فى أوائل التسعينات فى عز موجة الإرهاب فى مصر، عندما كان يكتب قى روز اليوسف و كان يهاجم التطرف الدينى بعنف جعله من المستهدفين على قوائم إغتيالات الجماعات الإرهابية، ثم أسس جريدة الدستور سنة 95 و كان أصغر رئيس تحرير فى مصر و كانت تجربة صحفية شابة و مختلفة فى كل شىء، كانت جريئة جدا فى معارضتها للنظام، و كان يكتب فيها صحفيين من كل التيارات، يساريين و ليبراليين و إسلاميين، أذكر منهم بلال فضل و محمد عبد القدوس و أحمد فؤاد نجم و أسامة أنور عكاشة و بثينة كامل و ياسر ثابت مثلا، وصارت أنجح جريدة توزيعا فى مصر وقتها، أحببت التجربة جدا و تعلقت بها و حببتنى فى الصحافة للدرجة التى جعلتنى أحلم بأن أكون صحفيا -كنت فى ثانوى وقتها- رغم معارضة أهلى لأنها مهنة متعبة و "ما بتأكلش عيش"، ثم كان أن نشرت الجريدة بيانا منسوبا لأحد الجماعات الإرهابية يهدد بإغتيال رجال أعمال أقباط سنة 98 أثار بلبلة إستغلها النظام لغلق الصحيفة المزعجة جدا له، و هو ما أصابنى بإكتئاب شديد وقتها، و ظل إبراهيم عيسى بعدها مشردا لا يجد صحيفة ترضى بتشغيله حيث كان مغضوبا عليه و لم يكن أحد يحتمل معاداة النظام وقتها بشكل صريح، تحول وقتها إبراهيم عيسى إلى بطلى الشخصى، و كنت أبحث عن كتاباته فى كل مكان كالمدمن، و من صحيفة إلى صحيفة كان كلما نشر مقالا فى واحدة أشتريها المرة التى تليها فأجده قد منع من النشر و هكذا، كما توفى إبنه فى هذه الفترة مما زاد من تعاطفى معه، إلى أن ظهرت القنوات الفضائية الخاصة و إتجه هو إلى مجال الإعلام المرئى فقدم برنامجا على قناة دريم لفترة حتى مورست الضغوط على أحمد بهجت فقاوم لفترة ثم رضخ فى النهاية و منعه من الظهور، و ظل هكذا حتى تمكن من إعادة إصدار جريدة الدستور عام 2005 فى ظل الإنفتاح الديمقراطى النسبى وقتها نتيجة الضغوط الخارجية و الحراك المجتمعى النشط مع ظهور حركة كفاية -التى كان هو أحد أوائل المنضمين لها- و كان هذا اليوم عيدا بالنسبة لى، تمكن إبراهيم عيسى وقتها بشجاعته فى رفع سقف حرية الصحافة فى مصر إلى درحة غير مسبوقة، حيث كان الوحيد وقتها الذى يهاجم مبارك بالإسم و بشراسة فى صحيفته ثم تبعه آخرون أمثال عبد الحليم قنديل و عبد الله السناوى و علاء الأسوانى و بلال فضل و غيرهم ، و كانت هذه هى مرحلة كسر حاجز الخوف التى مهدت للثورة، فى هذه الفترة قابلته شخصيا حيث كنت أعمل فى الشركة المالكة لقنوات أوربت و كان هو يقدم برنامجا فنيا عليها، و كان هذا يوما تاريخيا بالنسبة لى أن ألتقى أخيرا بمثلى الأعلى الذى تمنيت أن أكون مثله، و كانت سعادتى بكتبه التى أهداها لى ممهورة بإمضائه لا تقدر بثمن -رغم أننى أمتلك كل كتبه أصلا للدرجة التى فاجأته هو شخصيا- ثم تحولت الدستور من جريدة أسبوعبة إلى يومية فى تطور جديد، و كانت أبرز معالم هذه المرحلة الجديدة تحالفه مع الإخوان بشكل واضح للدرجة التى سخر فيها جريدته للدعاية لهم و جعلها منبرا لأعضائها، للدرجة التى ثارت فيها شبهات حول تمويلهم للجريدة التى قاطعها المعلنون خوفا من إثارة غضب النظام، و كان يدعو هو فى مقالاته الإخوان للثورة على النظام بشكل أدهشنى شخصيا لمخالفتى لتوجهاتهم و معرفتى السابقة بمخالفته لهم كذلك، و لكن كان الواضح أنه يراهن على كونهم الكيان الوحيد المنظم القادر على مواجهة النظام، و فى هذه الفترة كانت قضيته الشهيرة بإثارة الشائعات حول صحة مبارك التى نال فيها حكما بالسجن لمدة عام أوقف تنفيذه مبارك نفسه -حكمة منه أو رغبة فى تحسين صورته أو خوفا من زيادة أسهم عيسى كبطل شعبى أو كل ذلك الله وحده يعلم- و خرج من هذه القضية ليعاود الهجوم على مبارك بنبرة أشد زادت إعجابى به، ثم خرجت من جريدته فكرة ترشيح البرادعى لمنافسة مبارك على رئاسة الجمهورية –كما خرجت بإعترافه بعد ذلك فكرة ترشيح عمر سليمان من قبل- و كانت هذه المبادرة حجرا ألقى فى مياة الحياة السياسية الراكدة فى مصر خاصة مع ما يلقاه الرجل من قبول دولى مما ألب النظام على عيسى أكثر، ثم كانت الصفقة التى إشترى فيها السيد البدوى جريدة الدستور سنة 2010 و أقال إبراهيم عيسى من رئاسة تحريرها، و كانت هذه فترة تمهيد الأرض لمجىء الوريث المنتظر الذى فرغ صبره، فتم البطش بالمعارضة حتى المستكينة منها أمثال عمرو أديب الذى تم إيقاف برنامجه، و سبق ذلك الإعتداء الجسدى على عبد الحليم قنديل و التنكيل بالمتظاهرين من حركة كفاية، و توحشت الداخلية و إنتشرت فيديوهات التعذيب الصادمة، ثم كانت الطامة الكبرى فى إنتخابات البرلمان التى أشرف عليها أحمد عز الصديق المقرب للوريث فقام بتزويرها للجزب الوطنى الحاكم بالكامل فى سابقة فريدة من نوعها فى مصر، ثم حدثت ثورة تونس و تلتها ثورة مصر التى كان أحد أبرز رموزها الإعلامية فى الميدان إبراهيم عيسى -مع آخرين كثيرين بالطبع- و كان له مقال شهير بعد خطاب مبارك العاطفى نشره على موقع جريدة الدستور الإلكترونى يحذر فيه الثوار -و الإخوان معهم بالطبع-من التراجع حتى سقوط النظام بالكامل، ثم حدث التنحى و تخيلنا أن الثورة إنتصرت، و خرج إبراهيم عيسى فى البرامج مشيدا بالإخوان و دورهم فى الثورة، و عندما أنشأ قناة التحرير بعدها بشهور قليلة كان يستضيف رموزهم و يدعو للوحدة و التكاتف بين جمبع الثوار لتحقيق أهداف الثورة، ثم بدأ الشقاق يزيد بين رفقاء الثورة شيئا فشيئا بعد تحالف الإخوان مع المجلس العسكرى الحاكم و إتفاقهم على خريطة طريق مخالفة لما إرتآه باقى رفقاء الميدان، و سادت نغمة الإستعلاء بالتنظيم و القدرة على الحشد بينهم و إغتروا بها، فنكصوا عن كل وعودهم السابقة بعدم السعى لحصد الأغلبية فى البرلمان و النزول بمرشح لرئاسة الجمهورية، و خاصة بعدما أخذوا الضوء الأخضر من أمريكا فى زيارة ماكين الشهيرة و لقائه مع رجل الجماعة القوى خيرت الشاطر، فى هذه الفترة كانت أصوات العقل من كل جانب تحاول الدعوة للتوحد مرة أخرى و الإلتفاف حول أهداف الثورة و مبادئها الشهيرة، إلا أن إبراهيم عيسى أصابته لوثة الإستقطاب مع من أصيبوا بها و كان من أشد دعاة الفرقة و القطيعة التامة مع التيار الإسلام السياسى بكامل أطيافه، خاصة بعدما فوجىء بإكتساحهم الإنتخابات البرلمانية بخلاف توقعاته المعلنة، و عندما وصلنا لإنتخابات الرئاسة و كان أبرز رموز التيار الثورى فيها أبو الفتوح -الذى كنت أؤيده مع كثيرين رأوا فيه رجلا وسطيا قادرا على إنهاء حالة الإستقطاب المدمرة فى المجتمع- و صباحى، و كانت هناك الكثير من المحاولات للجمع بينهم فى تحالف إنتخابى مضمون النجاح -خاصة وأن بينهما تاريخا مشتركا منذ فترة الدراسة الجامعية و سنوات النضال المشترك- كان عيسى من أبرز المعارضين لهذا التحالف و المحرضين ضده و الساعين لإفشاله بكل الطرق، مستغلا جريدته -التحرير- و برنامجه التليفيزيونى الشهير و علاقته الوطيدة بصباحى، و فشلت محاولات التحالف فعلا و حدث ما حدث فى الجولة الأولى لإنتخابات الرئاسة ووجدنا أنفسنا أمام الإختيار اللعين بين المرشحين المأفونين، و كنت و لازلت أحمل إبراهيم عيسى و صحبه من المتطرفين من كل التيارات الثورية مسئولية هذه النتيجة الكارثية
ومع نهاية المئة يوم الأولى من حكم مرسى الذى فشل فى تحقيق كل وعوده الإنتخابية البراقة فيها، فتح إبراهيم عيسى -وغيره- النار على مرسى و الإخوان و تيار الإسلام السياسى كله عبر صحيفته و برنامجه، و رغم إختلافى الكبير مع توجهات هذا التيار إلا أننى وجدت عيسى مثالا للفجر فى الخصومة –وهو ماكان متبادلا من جانب الطرف الثانى أيضا- فصار يصمهم بما فيهم و ما ليس فيهم، فإتهمهم بالخيانة و الكفر و الإرهاب منذ بداية نشأتهم فى عهد حسن البنا حتى الآن، و هو مالو صح فإنه يدينه شخصيا فى المقام الأول لتحالفه معهم قبل الثورة و أثنائها، و فى الوقت الذى كان فيه العقلاء يحاولون جسر الهوة بين أطراف المعادلة السياسية كان هو من أشد المعارضين لهذا الإتجاه و كان من الداعين لتدخل الجيش مبكرا جدا، و رافضا لأى حل سياسى للأزمة، حتى حدث ما حدث وتمت إقالة مرسى من الحكم، وهو ما لا أنكر أنه أسعدنى بعض الشىء وقتها لفشله الذريع فى إدارة البلاد، و غباء و عنجهية أنصاره و حلفائهم، وإن كنت أتمنى أن تتاح له الفرصة كاملة للقضاء على أسطورة التيار المدعوم إلهيا القادر على حل كل مشكلاتنا المستعصية بتقواه و بركته!
و كانت هذه بداية تحول جديد لإبراهيم عيسى، فصار من أشد المحرضين على إقصاء أنصار تيار الإسلام السياسى من الحياة السياسية بل و إستئصالهم من الحياة كلها إن أمكن! و كان من أكبر المؤيدين و المدافعين عن الفض الدموى الغشيم لإعتصام رابعة –الذى كنت أختلف معه جذريا لكنني كنت ضد فضه بهذا الثمن الفادح بالتأكيد- و صار عيسى مهاجما شرسا لشباب الثورة –تلاميذه السابقين!- و الحقوقيين –رفقاء النضال!- و المعتدلين -من نفس المعسكر لكن غير راغبين فى إبادة الطرف الآخرليس أكثر!- أصبح يصنفهم "مخنثين سياسيا"!
الخلاصة أنه تحول إلى شخص آخر لا أعرفه، فإبراهيم عيسى الذى عرفته و أحببته كان يسمح بنشر الآراء المعارضة له فى جريدته فكان فى مكتبتى كتاب له مثلا إسمه "مجرد إختلاف فى وجهات النظر" يضم سجاله مع الكاتب الصحفى محمد عبد القدوس –القطب الإخوانى و إبن الأديب إحسان عبد القدوس- على صفحات جريدة الدستور و هو ما كان أشبه بالمناظرة حيث كان يكتب كل منهما مقالا و صاحبه يرد عليه مفندا وجهة نظره فى سجال إستمر لأسابيع طويلة، اليوم صار يمنع كاتبا محترما مثل أسامة غريب من الكتابة فى صحيفته لمجرد إختلافه فى وجهات النظر، و عيسى الذى عرفته كان من أشد الداعين إلى الديمقراطية و الحرية و اليوم صار يهاجم المدافعين عنهما بضراوة، عيسى الذى عرفته كان متمثلا بسيرة جيفارا و الحسين دوما فى الثورة على الظلم مهما كان الثمن و اليوم صار متقبلا للظلم بلا غضاضة لمجرد أنه يقع على فريق مختلف معه بل و يهزأ من المعترضين على هذا الظلم أمثال رفيق دربه و صديقه القديم بلال فضل الذى نجح فى الإحتفاظ بضميره و عقله،عيسى الذى كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية و عن المقاومة صار اليوم يحرض مع المحرضين ضد حماس "البعبع الذى يخوفوننا منه!" و متماشيا مع التيار الغبى المهاجم للفلسطينيين و يراهم سببا فى كل المصائب، و الأهم أن عيسى الذى عرفته كان معارضا شرسا لا يخشى فى الحق لومة لائم، و كان ينظر له من زملاء مهنته من المتكيفين على أنه غبى لأنه لا يستطيع الحفاظ على شعرة معاوية مع السلطة كما يفعلون، و كانت القراءة له أو سماعه أو مشاهدته فعلا ثوريا تحريضيا ضد الظلم و الفساد و الإستيداد و التطرف و الفشل، أما اليوم فقد صار الإعلامى الأول فى مصر و أحد أهم محركى الرأى العام، و صار محبوبا جدا من أعدائه السابقين من الجهلة و الفاسدين و الغوغائيين و الإستبداديين.
و برغم كل هذا لازالت له بقايا معزة قديمة فى قلبى تدفعنى للحزن عندما أسمع أو أقرأ لاعنا له على مواقفه –عن حق غالبا- من رفاق و أنصار الأمس، إلا أن حزنى يتضاعف عندما أسمع مشيدا بمواقفه –بالباطل غالبا- من حلفاء و أنصار اليوم!