#أرواح_كليمنجارو
كعادته نصرالله يبهرني دائماً في كل مرة أقرؤه، في الواقع العميق الذي يكتبه، في طريقة وصفه للأشياء، في الجمال الذي يراه في كل ما يعيشه، ليكتبه، ثم عندما يكتبه نعيشه نحن!
اختلف القالب هذه المرة دون أن يختلف المضمون، لقد تحدث نصرالله عن تجربة إنسانية خالصة وفريدة من نوعها بطريقةٍ أخّاذة تجعلنا نعيش معها، حيث تحدثت الرواية عن أطفال فلسطينيين أفقدهم الاحتلال أطرافهم ولكنه لم يأخذ عزيمتهم فتمكنوا من صعود جبل كليمنجارو الذي يشكل أعلى قمة في افريقيا، برفقة عدد من الأشخاص المختلفين في جنسياتهم ولغاتهم ودياناتهم ودوافعهم لصعود الجبل، ولكنهم جميعاً يتشاركون في شيء واحد، فقد غيّرهم الجبل تماماً وغيّر حيواتهم.
لم أكن أقرأ الرواية فحسب، بل كنت أصعد الجبل معهم، لم يصل يوسف ونورة وحدهما القمة، أعتقد أن كل من قرأ الكتب قد وصلها أيضا، وكل من سيقرأ لاحقاً سيكتشف قمته الخاصة.
في الحقيقة، لا أعرف كيف كان بإمكان تجربةٍ كهذه أن تمر دون أن يكتب عنها كاتب فلسطيني جميل كنصرالله، ودون أن نعيش تفاصيلها الرائعة والموجعة والمتعبة، دون أن نصعد ونهبط ونضحك ونبكي ونحن نقرأ رحلة ستة أيامٍ وأكثر من اثني عشر روحاً تتسلق أحلامها وتنفض عنها هواجسها البشرية أثناء صعودها الجبل. لقد وصفت الرواية النصر ولهزيمة بطريقةٍ خلاّبة، تحدثت عن صراع الذات مع ذاتها وماضيها وذكرياتها وصراعاتها، وكل ما تملكه من قمم وأودية، وكل ما تعيشه الذات من صعودٍ وهبوط بطريقة قريبةٍ جداً تجعل كل قاريء يقف أمام نفسه ليبحث عن قمته الخاصة ويفتّش في قعر الروح عن رحلته الخاصة ليبدأ المسير.
كعادته، لا يمكن أن يكتب عن الفلسطينيين دون أن يتحدث عن معاناتهم مع الاحتلال، فأخذنا نصرالله مع ذكريات يوسف ونورة وغسان، إلى غزة ونابلس والخليل، لنشهد معهم أحداث كثيرة، ونعيش معاناتهم، سرقة البيوت وزراعة الألغام والحواجز والتفتيش والاعتداء على سيارات الإسعاف وسب أعراض الناس و و و ..
إن أكثر ما يلفتني في روايات نصرالله، أنه لا يكتب أحداث المعاناة فحسب، ولكنه يصف وقع الأحداث على شخصياته، يصف مشاعر القهر بدقة وعمق تجعلك تعيشها تماماً فتتألم وتبكي لما تعيش.
كما أعجبني أيضاً الذكاء الأدبي في وصف رحلة غسان وصعوده للجبل لتأتي المفاجأة الصادمة للقاريء لاحقاً حين يتبين أن الكاتب كان يتحدث بعيني الدكتورة أروى ونقل خيالها للقاريء كاملاً ليبدو وكأنه حقيقة.
لن أتحدث عن أسلوب نصرالله ولغته، فلطالما فعلت، في الحقيقة، لم يبرع كاتب مثله في نقل القاريء من حدث لآخر وشخصية لأخرى وموقف لآخر كما فعل هو، دون أن يشعر القاريء وكأن هنالك فجوةً أو شقاً ما في النص.
ومن الجدير بالذكر أن الرواية تستند إلى قصة حقيقية، وأن الكاتب رافق هؤلاء الأطفال في رحلة صعودهم فجاء الأدب ها هنا امتداداً للواقع، يوضحه بصورةٍ أعمق ويبرز جماليته بعبقرية فذة.
أنصح جداً بقرائتها، تستحق خمسة نجوم.
#ميسم
22-1- 2016