في الكثير من الأحيان أتساءل، لماذا أكتب مراجعة لرواية؟ هل من الممكن أن أنقل شعوري بالدهشة والحزن والألم والسعادة على الورق في شكل حروف؟ كيف يُمكن لهذه الحروف أن تبعث الحزن أو البهجة في نفس قارئها؟ فوجدت السؤال سخيفًا جدًا، لأن شعوري بالأساس كان نتيجة لقراءة حروف كاتب الرواية!
حسنًا... باختصار شديد، أنا تأثّرت بقراءة هذه الرواية. لا... تأثّرت بشدّة. لا لا... تأثّرت بشدّة حتى دمعت عيناي.
رواية مادونا صاحبة المعطف الفرو، من أجمل وأعمق الروايات التي قرأتها تتحدث عن خبايا نفس الانسان، بل وأراها تنافس بشدّة الروايات الروسية التي اشتهرت بهذا المجال. أبدع الكاتب التركي صباح الدين علي؛ في كل شيء في الرواية. وأرى أن رائف أفندي بطل الرواية هو الابن الشرعي لأكاكي أكاكيفيتش بطل رواية المعطف للكاتب الروسي الرائع قوقول، بل هو الابن الذي تفوّق على والده.
كيف استطاع الكاتب أن يُحوّل قصة قديمة مستهلكة مفضوحة النهاية، إلى رواية تتغلغل في أعماقك ولا تستطيع أن تتركك في حالك؟ كيف يجعلنا الكاتب نقرأ كل هذا الحزن والشجن فنستعذبه؟ كيف يمكن أن تكون على دراية بنهاية الرواية وما زلت تصرخ خوفًا من وقوع حدث ما وكأنك تشك في إمكانية حدوثه المحتوم!
بقليل من التأمل أدركت سبب نجاح الكاتب في ذلك، لقد جعل مشاعر رائف أفندي شديدة الحميمية إلى القارئ، يصعب تخيّل شخص لم يمر ولو بنذر بسيط مما مر به رائف أفندي، لقد رسم الكاتب أرواحنا على الورق، أو بالأحرى رسم ماهية أرواحنا... تلك المنطقة التي نخفيها عن العالم، ولا نبوح بها إلا لأنفسنا عند خلوة في مساء بارد ممطر نجتّر فيه ذكريات أخفيناها بمهارة وسط أرواحنا.
الرواية فيها مبالغات في المشاعر لكن منذ متى الإبداع الحقيقي فيما هو ظاهر للعين، وإنما الإبداع الحقيقي دومًا يكمن خلف الصورة، خلف الحرف، يظهر جليّا لمن ينقب بمهارة كي يستخرجه، وهنا تكمن المهارة، والتي أشهد بها لمؤلف الرواية الراحل.
الرواية أشخاصها تُعد على أصابع اليد الواحدة، لكنك لن تشعر بالملل... بل ستغوص في تفاصيل تملأ روحك، وتجبرك على تذكّر العديد مما قد فات من عمرك، ستزور محطات في ذاكرتك بشكل أو بآخر، فمحطاتنا تختلف دومًا.
وها قد وصلت إلى نهاية المراجعة وأنا ما زلت لا أعرف كيف أكتب مراجعة عن هذه الرواية، بل ولا أدري عن أي شخصية أكتب؟ عن رائف أفندي أم عن مادونا، أم عنّي أنا؟ أم عنك أنت أيضًا أيها القارئ؟ أدركت أنه من الصعب جدًا أن أكتب عن شيء لا يرغب الناس في الحديث عنه بقدر لهفتهم في قراءته!
لكنني سأترككم مع بعض اقتباسات من الرواية لعلّها تشرح ما أنا عاجز عن شرحه:
" لم أرد التفكير في أي شيء، أو تذكر أي شيء. ما حدث هذه الليلة عزيزًا وغاليًا بالنسبة إليّ لدرجة أني كنت أخاف حتى أن ألمسه بالتذكّر."
"منذ طفولتي كنت أخاف دائمًا من الإسراف في السعادة، آملًا أن أُخبئ بعصًا منها لأوقات أخرى."
"أدركت وقتها أن الأشياء الرائعة التي نحلم بها لا تتحقق كما هي في أحلامنا أبدًا."
"أن تحيا هو أن تراقب انسكاب الحياة ومضيها بمنطقٍ لا يتزعزع. وتعرف بأن لحظةً ما قد تملأ عمرًا كاملًا... والأهم من ذلك، أن تؤمن بوجود إنسان ستحكي له كل ذلك، وأن تحيا وأنت تنتظر قدومه. هل في الدنيا شيءُ باعث للسرور والانشراح أكثر من هذا؟"
" لكن أليس إيجاد قناعة من أمامك صائبةً وتبيّنك لها نوعٌ من التقارب الروحي معه أيضًأ؟"
" في هذا المساء فهمت بأن الإنسان قد يرتبط بإنسان آخر أكثر من ارتباطه بالحياة. ومجددًا فهمت بأنني لو خسرتها، فإني سأتدحرج في هذه الدنيا كحبة جوز جوفاء."
" لم أكن أشعر بالفراغ الذي تركه، لكني سأشعر بغيابه."
" عندما نرى مثل هؤلاء الأشخاص فإننا دائمًا ما نسأل أنفسنا: (لماذا يعيش هؤلاء الناس يا تُرى؟ ماذا يرون في العيش؟ أي منطق وأي حكمةٍ تأمرهم بالتنفس والتسكع في كل مكانٍ على وجه الأرض؟). لكن حين نفكر بذلك فإننا ننظر إلى ظاهر هؤلاء الناس فقط، دون التفكير بوجود عقولٍ داخل رؤوسهم؛ وأن تلك العقول -شاءوا أم أبوا- محكومةٌ بالعمل والتفكير، ولذلك فلكل امرئ منهم عالم كامن في داخله لا نحس به."
" كل مرارات الحياة وكل ما يُخسر فيها من أشياء ثمينة، يُنسى مع الزمن إلى الفُرص المُفوّتة فإنها لا تُنسى أبدًأ، في كل مرة يتذكرها المرء فإن شيئًا بداخله يُعذّبه. سبب 1لك على كل حال وهو الاعتقاد بأنه كان من الممكن أن يكون الوضع مختلفًا، وإلا فالإنسان مستعد دائمًا لتقبل ما يلقيه عليه القدر."
أنصح بشدة بقراءة الرواية، وأقيّمها بالعلامة الكاملة، كما أثني على الترجمة الرائعة للمترجم السعودي جهاد الأماسي، والذي عرفت أن الرواية هي عمله الأول في الترجمة الروائية من التركية.
تقييمي للرواية 5 من 5