لا يأتي حسين سبيتي إلى ميدان الكتابة الروائيّة من مكان بعيد. قبل باكورته «إعصار بالتيمور» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) التي صدرت أخيراً، عرفه الكثير من المهتمين بالشأن الرياضي صحافياً رياضياً اشتهر بمعارضته الشرسة لـ «اتحاد كرة القدم» السابق الذي أنتجه ــ وأطاح به أيضاً في وقت لاحق ــ توافق المرجعيّات السياسيّة على الطريقة اللبنانيّة، وكان يُعرَف باتحاد الرجل الواحد. معارضة قادته ليصبح أحد أبرز خصوم «الديكتاتور»، وحرمته من دخول الملاعب بقرار اتحادي. ليس هذا استطراداً بعيداً من موضوع الرواية، بل توطئة ضرورية للدخول في أجوائها من خلال التعرّف إلى شخصيّة كاتبها. لم تغب الجرأة التي طبعت مقالاته الناريّة، قبل ما يزيد على 15 عاماً، عن الرواية. لا يستطيع قارئ «إعصار بالتيمور» ــ إذا كان ممن يعرفون كاتبها شخصيّاً ــ الفصل بسهولة بين أحداث الرواية ومجريات حياته. ولا يُلام من يرى فيها – للوهلة الأولى – ملامح سيرة ذاتيّة. تتقاطع حياة حسين سبيتي مع حياة بطله حيدر في مواضع كثيرة: نشأ كلاهما في قرية جنوبية، قبل أن ينتقل إلى العاصمة لتلقي العلم في جامعاتها. كلاهما عمل في الصحافة الرياضيّة قبل أن يتخذ قراره بالهجرة إلى أميركا. وما يعزّز هذه القناعة أنَّ الراوي هو حيدر نفسه، وأنَّ ضمير المتكلم يتسيّد الرواية من فصلها الأوّل حتى الأخير، بعيداً من أيّ «تنويعات» أو «تعدد أصوات». غير أنَّ الكاتب يؤكّد أنَّه استلهم من واقعه نبضاً يبعث الحياة في روايته، وأنَّه أفرد بين هذه التقاطعات التي لا ينفيها، مساحةً أعمَلَ فيها الخيال. وما عَجْزُ القارئ عن التفريق بينهما مجدداً، سوى دليل دامغ على نجاح الكاتب في مهمّته. اقتراب الكاتب من الواقع إلى حدّ التماس معه في نقاط كثيرة، ينطوي على الكثير من المخاطر، ويعطي صورة واضحة عن جرأته المفرطة. الخط الرئيسيّ في الرواية، هو قصّة الحبّ التي تنشأ بين حيدر، والفتاة البيروتيّة سماح. وفي لبنان الذي تطوَّب مناطقه باسم طوائفه، في أذهان كثيرين، تغني الجغرافيا – إلى حدٍ كبير – عن أسئلة الديموغرافيا المحرجة. ولأنَّ الطائفية ليست المرض الوحيد الذي يصيب الحبَّ في مقتل، فإنَّ الكاتب يصوِّب أسلحته أيضاً على الأنانيّة، تلك التي تجعل المرء لا يرى في أقرب الناس إليه سوى سلم يساعده في الارتقاء إلى النجاح، وتنتفي الحاجة إليه عند الوصول. هذا ما يعانيه بطل الرواية بعد شفائه من حبه لسماح، حيث تكون نجاته بأعجوبة من الإعصار الذي ضرب مدينة بالتيمور سبباً في لقائه بنعومة. تمتهن هذه الأخيرة الطب وتبرع فيه، لكنها لا تدرك شيئاً عن الأخلاق التي يفترض أن يتحلى بها حامل هذه الرسالة الإنسانية. تشكل علاقته بنعومة التي تبدأ وتنتهي في بالتيمور، إعصاراً حقيقياً يخرج منه بروح مترعة بالألم. ولأنَّ السياسة، كما الحبّ، مكوّن أساسيّ في أيِّ رواية، ولأنَّ بطل الرواية، كما كاتبها، مواطن أميركيّ، فقد كان للحدث السوريّ حضور بارز فيها من زاوية مشاركة حيدر في التظاهرات أمام البيت الأبيض رفضاً للتدخل العسكريّ في سوريا. كذلك موقفه مما يعرف بالربيع العربيّ، ومن «الملوك والأمراء الذين يصدِّرون الحريّة والديمقراطيّة إلى من حولهم ويقطعون رؤوس من يفكّر بها من رعيّتهم المقموعة». وهي عبارة كفيلة بإدخال الرواية منذ لحظة ولادتها إلى قائمة «الكتب الممنوعة» في أكثر من بلد عربي. والسياسة تحضر قبل ذلك أكثر من مرّة. تحضر أوَّلاً في اكتشاف حيدر لحقيقة الكذبة المسمَّاة «الانتخابات الطالبيّة» في جامعات لبنان، بوصفها صورة مستنسخة عن واقع سياسي مأزوم، وحياة حزبيّة مشوَّهة، حيث الولاء لزعيم الطائفة هو المعيار. وتحضر مرَّة أخرى في الحديث عن سقوط «نادي النجمة» ــ بكلّ ما يختزنه من رمزيّة وطنيّة وجماهيريّة عابرة للطوائف والمناطق ــ في قبضة طرف أساسي في اللعبة السياسية الداخلية. هذا المؤشر السلبي كان أحد دوافع حيدر، صاحب الشخصيّة الحسَّاسة والشعور المرهف، إلى اليأس من صلاح الأحوال في هذا البلد واتخاذ قراره النهائيّ بالهجرة. «إعصار بالتيمور» حكاية قلب أصابته السهام حتى «تكسَّرت النصال على النصال»، و لكنَّها رغم ذلك ليست دعوةً إلى الإقلاع عن الحبّ، بل إلى الإصرار عليه...
مهدي زلزلي - الأخبار -العدد ٢٥١٧ الجمعة ١٣ شباط ٢٠١٥