لماذا يظن كل من إمتلك السلطة أن بإمكانه التحكم في مصائر البشر ؟
لماذا يصبح كل شئ جائز في حسابات الحاكم مادام هناك مصلحة ما حتى وإن كانت شخصية ؟
لماذا يُسيطر عليهم جنون السلطة ويُعميهم ؟
تاريخ يتكرر وإن إختلفت أشكاله ..
"لكن السياسة لعبة قاسية، تجعلنا ندفع مقدماً الأحلام التي تراودنا"
الجميع هنا دفع ثمن تلك اللعبة القاسية حتى من لا ناقة لهم فيها ولا جمل
نحن أمام رواية مميزة بلا شك
المنسي قنديل قرر أن يأخدنا إلى حقبة تاريخية قد لا نعرف عنها الكثير، وخاصة ما خفي منها، فهناك دائماً خفايا لا يعرف عنها احد، فغالباً من يظهر لا يمثل سوى نسبة قليلة جداً مما حدث ويحدث كل يوم
"من الذي يمكن أن يهتم بمصير أورطة سوداء جائعة، تقل أعدادها عن الخمسمائة رجل بقليل، لا يشعلون حرباً ولا يحسمون معركة"
نحن امام حكايتين متوازتين قد تظن لبعض الوقت انها متباعدتين تماماً ولكن تتداخل الأحدث فتجعلك في حيرة وألم
الفرق شاسع بينهم في كل شئ
بين من قُتلت أحلامهم وبين من يبحث عن أحلامه
من ييبكي ألماً وقهراً وذلاً وبين من يبكي فرحا
بين رحلة بدأت بالموت لتكمل في طريقه وبين رحلة بدأت بالحلم لتنتهي بالموت أيضاً ..
الحكاية الأولى مجموعة من السود من قبيلة ما تحولوا في "مصادفة عبثية" بين تاجر جشع وسلطان أحمق باحث عن السلطة والقوة من أحرار إلى عبيد
ليكتمل حظهم العثر أن يقوم الوالي بمعاقبة التاجر والاستيلاء عليهم ليتحولوا إلى التجنيد فيلقي بهم أفندينا إلى العالم الجديد ليكسب ود الفرنسيين بعد ان انضم لهم من تم تجنيدهم بالسخرة من بعض المصريين كما كان يحدث في ذلك الوقت
"ها هو أفندينا يرسلنا للحرب إلى بلد مجهول لا نعرف حتى اسمه، لا أحد يأبه بتقديم شرح أو تفسير، أرواح رخيصة تساق إلى حرب غامضة، لا نعرف متى قامت ولا لأي سبب ستنتهي؟ وربما نكون موتى في ذلك الحين"
الحكاية الثانية حكاية أمير من أسرة الهابسبورج وزوجته يتم إغراءهم ليكونوا إمبراطورية في العالم الجديد ليبسطوا سيطرة الفرنسيين عليها ويواجهوا مايحدث فيها كان فخاً جميلاً مزيناً بكل الأطماع التي تجعل أي شخص يقبلها بسهولة دون أن يدري بما هو مقبل عليه.
تستمر الحكايتين بالتناوب نجد أنفسنا نعاني في رحلة هذه الكتيبة السوداء مرة
لننتقل لنحيا الحلم مع هذا الأمير وزوجته
نسافر مع الكتيبة منذ البداية بين الغابات وفي النهر وفي رحلتهم عبر المحيط
وننتقل لنجد نفسنا في شوارع بروكسل وباريس وانجتلرا
نعيش الصراعات السياسية وايضاً ننزل ميادين الحرب ونشعر بما يدور فيها
"في الحرب لا يوجد فائض من الوقت، لا مجال للاسترخاء، او النوم الآمن، يقظة لا تنتهي، بلا بهجة ولا رفقة ولا فرحة ولا غبطة ولا أمل "
قنديل قادر على ينقلك من عالم لأخر .. أن يجعلك تعيش التفاصيل وتتخيلها .. تشعر بما يدور داخلهم وحولهم وترى بعيونهم ما يروه
على الرغم من الإسهاب في التفاصيل الذي قد يجده البعض مزعجاً إلا أنه يشبع فضول القارئ
بين التاريخ للجغرافيا للمشاعر الإنسانية المختلفة من موت وفقد، حلم وأمل، كره وحب وغيرها الكثير
استطاع ايضاً ان ينقل لك كيف تغيرت تلك الكتيبة تدريجياً نتيجة لما حدث لهم وما عانوه
"وجوههم ليست خائفة ولا شاعره بالخطأ ولا مستكينة ولا تسعى للعفو، لا توجد نظرات وقحة ولا إيماءات للتحدي، فقط لم يكونوا عبيداً، لم يعودوا عبيداً، لم تتغير ألوان جلودهم، ولم ترتق رتبتهم، ولكنهم لم يعودوا كما كانوا، ليس اللحم بالتأكيد، ولكنه الرحيل للمجهول والموت الذي أصبح قريباً لدرجة نزعت الخنوع منهم جميعاً"
"لم يكن السود حيوانات وحشية كانوا فقط يحاربون، ينفذون أوامر الفرنسيس، البيوت التي اقتحموها، والمصانع التي هدموها، والأقبية والمخابئ، كلها كانت بأمر منهم، يتركون لهم أفعال الحرب الرديئة"
قسم الرواية على حسب السنوات منذ عام 1863 وحتى عام 1867 وهنا تركها إلى ما لا نهاية وكان الفصل الأخير الوحيد الذي يحتوي على عنوان "نفوس ومصائر"
كان هذا الفصل تحديدا يدل على ان كل شئ يستمر
رغم الموت والفقد وجنون السلطة فالحياة مستمرة
واطماع البشر لا تنتهي وايضاً بحثهم عن الحياة وتمسكهم بها حتى النهاية
من أكثر الشخصيات التي جذبت انتباهي هي شخصية "العاصي" المتمرد منذ البداية
كان اقربهم إلى الموت ولكني لم اتخيل أبداًان حياته ستصل لهذا الشكل
وربما كان مثالاً أن من يقاوم هو فقط من يبقى حتى النهاية ..
"أربع سنوات من الصراع على لا شئ"
هذه هي السياسة صراع على لاشئ .. يموت من يموت ولا نتيجة
قتال لا يهدئ وآلام لا تنتهي
وفي النهاية هذا ان كان هناك نهاية تكون "وسام" !
"هذا الوسام لا يساوي الدم ولا حسرة الإفتقاد"
ربما لن أجد نهاية سوى كلمات بلال فضل والتي قرأتها منذ فترة في كتابه "فتح بطن التاريخ"
"لماذا يحب التاريخ أن يعيد نفسه في الدول المتخلفة؟
ببساطة:
لأنه لا أحد فيها يقرؤه و يتعلم من دروسه, و لذلك يجدالتاريخ أن من الأسهل عليه تكرار نفسه بدلا من تكليف نفسه بتقديم الجديد"