عبثاً أحاول التقاط النوم من أي سقف تدلى منه النعاس، أو أية نافذة أطل منها ... ولكن بلا فائدة!
تخيّل معي...
الكهرباء منقطعة، أفكر في العمل الذي عليّ أن أستيقظ باكراً لألتحق به، أفكّر بصلاة الفجر التي عليّ أن أصحو لأجلها بعد ساعتين على الأكثر!
وأنا أطارد النوم،
قررت أخيراً بعدما استنفدت كل مدخراتي من المحاولات، أن أقرأ شيئاً يسرّب النعاس إلى عينيّ وقلبي فأنام.
وكانت يدي قد امتدت إلى هذه القصة دون غيرها، فكان – تحصيل الحاصل - أن طار النوم من محيطي كله إلى أربع وعشرين ساعة لاحقة!
سأخبرك لماذا!
صحيح أنها أول مرة أقرأ فيها قصة لموراكامي (الروائي الثرثار) وتكون مختصرة إلى هذا الحد ومركزة بالقدر الذي يجعلك تقرأها في أقل من ساعة، وإن كنت أقرّ بأنه أفضل وأهم الثرثارين الذين قابلتهم في حياتي، لكن كما عرفت عن هذا الرجل إنه يكتب بطريقة مريبة، ولا أعلم سببها، لقد كنت أقرأ وأتخيل شكله بينما كان يكتب قصة كهذه يصنع أبطالها ويخلق لهم سيناريو ويعيش معهم، ليجعلني أشعر بالريبة وأتخيل كل شيء، هذا ما تخيلته مع أبطال (رقص – روايته التي تعيش معي دوماً) فطريقته في صناعة الشخوص مهيبة وغريبة، ومميزة جدا وبحق، لكن أبطاله مريبون، الأحداث كذلك، والظلام الذي يدخل كعمود فقري في قصصه كلها والمتاهات الكثيرة التي تسلمك الواحدة منها للأخرى.
ارتبت، وارتبكت وتوترت وأنا أقرأ القصّة، وقد تكوّنت لديّ قناعة بأن شيئاً نفسياً بحتاً يربطني بهذا الرجل، ويجعل خيالي الفطري يأخذني إلى التفكير عن اقتناع مسبق بأن موراكامي عاش قصة - غريبة - ما أثرت على نفسيته، تلك القصة لها علاقة بالظلام، لابد أنه يتأمل كثيراً، يربط أحداث العالم ببعضها وبشخوص من بنات خياله ولكن في منطقة بعيدة عن الضوء تماماً!
الغريب والمربك أكثر في قراءتي لهذا الرجل بالذات، أنني كلما قرأت العتمة التي يرسمها بدقة وحذر شديدين، غامرت في الخروج إلى النور من مكانٍ ما، دفعة واحدة وبلا أي تردد أو خوف.
الخوف الحقيقي بل الارتياب الذي ينزرع فيّ ويتشعب كلما قرأت لهاروكي، كان من منطلق الانكشاف على حقائق عدة، ومنطلق ملامسة ما يكتب للواقع والحقيقة بشكل أو آخر، فمجرد احتكاك طرف من أطراف قصصه في جسد الحقيقة يصدر بداخلي شرارة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، وهذا الذي يجعلني أرتبك، وأنا مرتاحة لهذا الاستنتاج لذلك فأنا لا أتردد أمام القراءة له أبداً.
في قصة الولد المريبة داخل المكتبة الغريبة (لا أعلم حقاً لماذا وصفها بالغريبة، مع أن هذا هو المستوى الطبيعي لموراكامي) لم أستطع أن أتوقع أبداً أية نهاية، وبين كل الأخيلة وجدت نهاية معلقة مفتوحة بعيدة كل البعد عن أخيلتي فزادني ريبة لأفكر طويلاً في تلك المكتبة.
طاقة السخرية مفتوحة على مصراعيها وجميع الكائنات بداخلها يقهقون وأنا أفكر في: لماذا عشت القصة مرةً أخرى في حلمي بمجرد نمت بعد ساعات طويلة من التفكير في القصة؟
أنا أعرف الجواب ولن أخفيه عنكم:
إنها نقاط مشتركة بيننا وبين البطل، حاجتنا لتفسير بعض الأشياء والجري وراء الفكرة التي تخطر ببالنا في هذا الفضاء الافتراضيّ المريب.
ظلّ ببالي طول فترة القراءة الكتاب الضخم الذي كانت تقرأه المرأة في الاستقبال، وسؤال: لماذا حذف الراوي بالمكتبة إلى الأسفل ونحن نسمي المكتبة فضاءً؟
لكن الحزن الذي استوطنني بسبب موت العصفورة ومصير الصبية آذاني كان أكثر من موت الأم ومصير الصبي إلى كهف الوحدة وهرب الرجل الخروف الذي بدا في بداية الأمر لطيفاً وفياً يحشو التائه بالإشارات ويهبه بوصلة وإن كانت مغبّرة ومتسخة!
غزة
06 فبراير
2015م