* كافكا دون وطفي :
لا ريب ان الصوت ليس ذلك المألوف ، فبدلاً منه تستمع الى الصوت المنبعث من القبرالعتيد مباشرة ، ثم تسأل لماذا تدخل ذلك الصوت بيننا منذ البداية ؟ لماذا أخذ على عاتقه الاضطلاع بذلك الجهد الهائل ؟ .
كان انطباعي عن أثر انفصال الثنائي (كافكا وطفي ) على متعة قراءة آثار كافكا مبالغاً به ، لا ريب أن وطفي اكثر من مترجم فهو الباحث والمتخصص في أدب كافكا والذي اصطحبنا خلال الرحلة في المجلدات الأربعة مع تفسيراتها و لم يسعفه العمر ليكمل باقي الآثار ، فتركنا وحيدين مع فيض وجود كافكا وكثافة حضوره اذ يلقي بنفسه وكيانه الى كل كلمة ، ليبقى السؤال هل نحن مع كافكا فعلاً ؟؟!!
" فيا لليد الخرقاء ، التي تأبى أن تنسجم مع كل ما أضمره ! هل يمكن أن تكون هذه هي القضية ؟ "
"فما تعودنا على أن نعتبره خيطاً فاصلاً أصبح الآن حداً ، او سلسلة من الجبال ، أو على نحو أكثر دقة ، قبراً " .
" كنت هنا يا ميلينا – انت والعقل البائس العاجز عن التفكير ! إلا أنها ستكون كذبة بالنسبة لي .. انك توجدين هنا ، مثلما أنا هنا ، ان وجودك مؤكد أكثر من وجودي ، انك تكونين حيث أكون ، وجودك كوجودي ، واكثر قليلا من وجودي في الحقيقة ، لست امزح ، ذلك انني أتخيلك احياناً ، بما أنك هنا ، تفتقديني ، وتتساءلين "اين هو ؟ " ألم يكتب قائللاً انه في ميران ؟ " .
" السبب الذي يجعلني أتساءل عما اذا كنت لن تخافي هو أن الشخص الذي تكتبين عنه ليس له وجود ...ولم يحدث أن كان له وجود ، فذلك الذي في ڤيينا ليس له وجود ، ولا كان لذلك الذي في جيموند وجود ، وان كان الأخير يزيد عن الأول في انعدام وجوده ، وستحل عليه اللعنة علاوة على ذلك . وان تعلمي بهذا لهو أمر هام ، لأنه لو كان علينا أن نصل إلى اتفاق فيما بيننا فسوف يعود ذلك الشخص الذي في ڤيينا ، أو حتى ذلك الذي من جموند إلى التواجد بكل البراءة ، وكأن شيئاَ لم يحدث ، على حين أن الشخص الحقيقي في أسفل ، ذلك المجهول للكل ولنفسه ، والذي يقل وجوده حتى عن وجود الآخرين فلماذا لا ياتي ويظهر نفسه ؟ - سوف يرفع يده في تهديد ، ويحطم مرة أخرى كل شئ "
* هنا الظلام :
يعيش كافكا الرعب الحالم ، وينتج ما يمكن تسميته بالأدب القلق ، فهو يتمزق ارباً حين يكتب بفعل القلق والخوف ويعذب نفسه لدرجة الجنون قرباناً للابداع .
لا يعرف ما الذي يريده في المدى البعيد وكل ما يتطلع له هو السكون والظلام والزحف الى مكان للاختباء .
ورغم كل ذلك ( وهذه عبارة هائلة لدى كافكا ) هو يعلم أن هذا هو جوهر وجوده ومكمن قوته .
" انه اندلاع ، وهو يأخذ مجراه ، ولقد قطع جزءاً من شوطه ، إلا أن الطاقات التي بعثته إنما ترتعش في داخلي طوال الوقت ، قبل الاندلاع وبعده –في الحقيقة - ، حياتي ، وجودي ، انما يتألف من هذا التهديد السفلي ، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضاً وجودي . انه طريقتي في المشاركة في الحياة ، فلو توقف هذا التهديد ،أهجر الحياة ، بمثل سهولة وطبيعة اغلاق المرء لعينيه ، وهل لم يكن موجوداً منذ أن عرف أحدنا الآخر ؟، وهل كنتِ لتتطلعي إلي ولو خلسة لو لم يكن هذا التهديد موجوداً ؟"
" وكان علي أن أعود إلى الظلام ، لم يكن بمقدوري أن احتمل الشمس ، كنت قانطاً ، حقيقة كحيوان ضال شرعت في الانطلاق جرياً باسرع ما أمكنني ، وكانت الفكرة هي " لو امكنني فحسب أن آخذها معي !" والفكرة المضادة " هل ثمة أي ظلام حيث تكون هي ! " .
* "هل ثمة أي ظلام حيث تكون هي ؟" :
اجابة هذا السؤال بالنفي هو مقتل علاقة كافكا مع ميلينا ، فقوة كافكا وجوهر وجوده في عدم انسجامه ، و في تلوي روحه تحت وطأة الآلام .
ثم يجد الارتياح عند ميلينا ، فهي من يمكنه التحدث اليها بما لا يمكنه ان يحدث به أحداً سواها ، ذلك أن أحداً سواها لم يضع نفسه مكانه بكل ذلك التفهم وبكل تلك الرغبة ، على الرغم من كل شئ ( وللتذكير فهذه جملة هائلة لدى كافكا ) .
ولكن ما كافكا بباحث عن الارتياح ، على العكس من ذلك يحاول أن يُدخل ميلينا في جاذبيته المتربصة ( كنت قد فكرت بعنوان آخر لهذه الفقرة وهو – كافكا الثقب الأسود – ولكني عدلت عنه بعد تمكن البشرية من التقاط أول صورة لثقب اسود أول أمس !! ) ثم يقاوم ذلك رفقاً بها ( فهي لا يمكنها المقاومة بطبيعة الحال ) .
" فكيف يمكنني أن اعتقد أنك تحتاجين الى رسائل الآن ، بينما لا تحتاجين الى شيء سو الهدوء ، كما قلت مراراً في شبه غيبوبة ، وهذه الرسائل ليست في النهاية سوى عذاب ، وليدة العذاب ، العذاب الذي لا شفاء له ، وتخلق فقط العذاب ، العذاب الذي لا شفاء منه ، ما فائدتها ، وانها لتزداد سوءاً حتى خلال هذا الشتاء ؟ "
" كنت قد رحت أغني لكِ بلا انقطاع أغنية واحدة ، هي أغنية مختلفة باستمرار ، ودائماً هي نفسها ، ثرية كالنوم بلا احلام ، مضجرة ومنهكة حتى أنني كنت في أثتائها أحيانأً ما أستغرق في النوم ، فلتسعدي لأنه ليس عليكِ أن تسمعيها ، اسعدي بانك مصونة ضد رسائلي طوال كل هذا الوقت "
" ما قلته لكِ ذات مرة بوضوح تام – ان نكبَتُكِ الحقيقية ليست أحداً آخر سواي ، سواي أنا وحدي ، أعتبر نفسي سوء حظك "
* تكاثف الخوف :
دائماً ما يكون كافكا في حالة خوف غير معلوم من شيء غير محدد، فهو الغارق في اعماق خوفه ، ويصف نفسه بأنه مدافع مرتشي عن " خوفه " ويعتبره جزء منه وربما أفضل الأجزاء ، و أنه اذا ما استحق حب ميلينا له فانما يستحقه بسبب هذا الخوف الذي يهاجم أساساته .
" لكن ما الذي يمكذنني أن أفعله لو ظل ذلك الخوف ينبض في جسدي بدلاً من القلب ؟"
" فلا يسعني قراءة تلك الرسائل ، وان كان لا بد لي من قراءتها ، كما يشرب الحيوان العطشان ، وهو يشعر بالخوف ، بينما يتزايد خوفه أكثر فأكثر ،لهذا أبحث عن قطع الأثاث التي يمكنني أن أختبئ تحتها "
" لو أمكنني أن استغرق في النوم ، كما أغرق في خوفي على هذا النحو ، فلن اكون حينئذٍ على قيد الحياة "
" شئ واحد فقط لا يمكنني احتماله يا ميلينا ، دون عونك الخاص : ذلك هو "الخوف" وانني لضعيف غاية الضعف بالنسبة لهذا " .
* عن الرسائل :
- فقرات نثرية بديعة خطها قلم كافكا الذي يسيطر عليه قلق بالغ ومتصل ، تتفاوت طبيعتها فمنها ما يجب استنزافه لآخر قطرة ،ومنها ما يتضمن تفاصيل يومية كترتيب اللقاءات ومراجعات لبعض الروايات والكتب فيمكن قرائتها بارتياح أكثر .
" أحياناً لا أفهم كيف اكتشف البشر فكرة البهجة ، ربما كان قد تم تقديرها على أساس أنها نقيض الحزن " .
" لا يمكنني ان أحمل العالم على كتفي ، فانا لا اكاد أحتمل عبء معطفي الشتوي فوقهما " .
" لا أحد يتغنى بمثل هذه الأصوات الصافية ، كما يتغنى هؤلاء الذين يعيشون في عمق أغوار الجحيم ، وان ما نحسبه شدو الملائكة أنفسهم انما هو غنائهم " .
"وانا عندما أتحدث اليكِ أنسى كل شيء حتى أنتِ "
" ماذا يشكل اللقاء الشخصي أمام هول اللقاء في الرسائل ؟ "
- قيل الكثير عن االمسألة اليهودية ، لا أتفق مع من ذهبوا الى أن شعوراً بالدونية يسيطر على كافكا نابع من كونه يهودي ، واعتبر أن النظر الى الأمور بهذا الشكل فيه شيء من السطحية ، فكافكا هو كافكا ولو اتفق له أن يكون يهودياً . وهذا ما يؤكده عندما يبرر تفكيلره في الرحيل في احدى الرسائل قائلاً " انه اذا ما اتفق أن يكون كل هذا الكره محيطاً بنا فمن الأفضل ترك المكان " ، فعندي انه لو اتفق لكافكا ان يكون غير يهودي لكتب بنفس الطريقة ،لربما مع اختلاف بسيط هو أنه لن يشير الى المسألة اليهودية .
" إنني أرى أمامي امتداداً لطريق مفتوح ، وادرك كم هي هائلة تلك المسافة التي يشق علي غالباً أن أقطعها بادئاً من وضعي الحالي قبل أن أصبح جديراً بنظرة عابرة ( ألقيها بنفسي على نفسي فكم يلزمني لكي أحظى بنظرة من الآخرين ) ليس هذا تواضعاً بل غروراً لو أنكِ تمعنتي بذلك جيداً )"
- وقيل الكثير ايضا عن مسألة الخصوصية ومدى أخلاقية نشر مثل هذه الرسائل ، وعندي أن ما هو غير أخلاقي هو ضياع إرث كالذي بين أيدينا ( العجيب أن أغلب من ينتقد نشر مثل هذه الرسائل بمثل هذه الحجج هم ممن قرؤوا الرسائل وكان الحس الأخلاقي النبيل الذي يمتلكونه يوجب عليهم الامتناع عن ذلك ) .
يترك كافكا مخططات كتبه وترجماته لدى ميلينا ثم يقول لها في احدى الرسائل :
" لا اعتراض لدي على أي شيء يروق لكِ أن تفعليه ، بالكتب والترجمات ، إن ما يؤسف له أنها أشياء ليست ذات أهمية كبرى عندي ، حتى يكون تركي لها تعبير حقيقي عن الثقة التي أشعر بها نحوك " .
* عزيزي كافكا :
" اسبوع بكامله وانا أسمع صوتك يدق مسماراً في قلب حجر دون أن يستريح في أثناء الليل ، " بل أظل على الدوام طارقاً ومسماراً في وقت معاً يا ميلينا ""
كنت قد قرأت ( الحكم ، الانمساخ ، رسالة الى والد ، المفقود ، المحاكمة و القلعة ) وفي نهاية مراجعتي لرواية القلعة قلت ان مع كافكا كان لا بد من ابحار ، مع كافكا لا بد من غرق ، واعتبرتك يومها بحر ظلمات بعضها فوق بعض ، وفي أثتاء قراءة هذه الرسائل فكرت بوصف أدق لتلك الجاذبية الهائلة وذلك الغموض فقلت ( كافكا الثقب الاسود ) ثم اتفق للبشرية تصوير ثقب أسود خلال الاسبوع نفسه فعدلت عن التسمية وساكتفي ب ( كافكا ) .