إذن فهي الذكريات مرة أخرى. الذكريات التي لا نكفّ عن الحديث عنها، ولا نكتفي من القراءة أو الكتابة عن تفاصيلها. نقرأ ذكريات الآخرين. نكتب ذكرياتنا التي تُلاحقنا. نشتاق إليها تارة ونلعنها تارة. نتباهى بها بنشوة أو نُخفيها بتصميم. هي حجر الأساس في شخصياتنا؛ مزيج يُشكّل ذواتنا من خليط ذكريات سعيدة وتعيسة، بريئة وآثمة. يلجأ البعض إليها كملاذ يجترّ منه سراب أمان قد ولّى منذ زمن بعيد... ويحاول آخرون الهرب من أثر ظُلمتها المُخيفة الباقية في أرواحهم. لكن لا أحد يستطيع أن يئد ذكرياته، وكأنها لعنة لا يُمكن التخلّص منها. إنها صندوق أسود غير قابل للإتلاف. كعدوّ رابض في الخفاء ينتظر اللحظة المُناسبة لِبَخّ وجعنا المنسيّ أو المُتناسى. لكن هل ستُصدق عقولنا تلك الذكريات حين مواجهتنا أنفسنا؟!
لقراءة المُراجعة الطويلة كاملة بشكل مُنسّق وبخطّ أكبر وواضح مع الصوّر والفهرس - اضغط على الرابط التالي
****
---
مواجهة غير متوقعة
في رواية "ذكريات ضالة" للكاتب الكويتي عبد الله البصيّص، يروي سلمان بدر الراجي -بطل الرواية المنكوب- قصته في محاولة للهروب من أتون ذكرياته الذي اشتعل فجأة فحوّل حياته إلى جحيم. ينشد سلمان ببوحه الخلاص من حِمله المُرهِق بعد مواجهة غير متوقعة مع ألدّ أعدائه... نفسه!
اختار الكاتب أن يتوارى وراء بطله في سرد الأحداث تاركًا القارئ في معيّة المُعذّب في تقنية موفقة من أجل ربط القارئ بالأحداث وإضفاء مصداقية على السرد. قد لا تُناسب هذه التقنية -التي جاءت في المُقدّمة- كُل القُراّء.. لكنني أظن أن ذلك يعود بشكل أساسي إلى شعور القارئ بريبة تجاه الأحداث حيث تتأرجح بوصلته بين الحقيقة والخيال لما سُرِدَ في الرواية.
----
رواية ليست بوليسية!
يُخطئ من يظن أن رواية "ذكريات ضالة" هي رواية بوليسية رغم استخدام الكاتب هذا الطابع كهيكل يبني عليه الأحداث، لكن الرواية في الحقيقة تندرج تحت تصنيف الروايات النفسية الاجتماعية، وهي مُطعّمة بالتأملات الفكرية والفلسفية والوجودية وإن كانت بشكل غير مُتعمّق، حيث جاء بعضها واضحًا خاصة في مرحلة الطفولة، بينما جاء بعضها الآخر مخفيًا مُستترًا خاصة في الجزء الأخير من الرواية (سأقوم بتناول هذه النقطة لاحقًا). ذكّرني ذلك ببعض روايات ستيفن كنج المُصنّفة كروايات رعب رغم أنها في جوهرها روايات نفسية اجتماعية عميقة مثل تحفته البريق.
لقراءة مُراجعة رواية البريق لستيفن كنج - اضغط على الرابط التالي
****
أرى "عبد الله البصيص" بارعًا في الكتابة في هذا التصنيف، وقد رأيت أن موهبته قد صُقلت -فلسفيًا ونفسيًا- بشكل أعمق في رائعته رواية "قاف قاتل... سين سعيد".
لقراءة مُراجعة رواية قاف قاتل سين سعيد لعبد الله البصيص - اضغط على الرابط التالي
****
برع الكاتب في بناء شخصية سلمان، تلك الشخصية المليئة بمتناقضات بشرية خلقت صراعًا داخليًا بدأ في مرحلة الطفولة وتصاعد تدريجيًا بتقدّم العُمر. المشاكل الأسرية التي عاشها سلمان كانت السبب الرئيس في خلق حالة من عدم الاتزان النفسي داخله والتي نتجت من بيئة غير مستقرة بين أبيه وأمه. أب وأم في مشاحنات دائمة وأب يشعره بأنه لا يريد الارتباط به بل والتخلص منه هو وأمه في أقرب وقت. الأم التي تحاول الحفاظ على ابنها خوفًا من أن يُماثل أبيه في سلوكه، والأب الفجّ العنيف المُنعزل عن كل من حوله زوجته وأهلها وحتى الجيران. والذي ينفر من ابنه لارتباطه بها.
يُخلق ذلك شعورًا بالضآلة لدى الطفل سلمان كونه لا يرى نماذج مُشابهة لحالته في مجتمعه الصغير المُحيط به، وكأنه مُجرد خطأ في هذا العالم. في بيئة مُضطربة كهذه تولد رغبة طفولية مذعورة لإثبات الذات ولفت الانتباه، رغبة متولدة من مزيج قاتم من الغضب والخوف. تخرج هذه الرغبة كما نرى في الرواية في صورة عُنف تجاه الكلاب أولًا (كائنات ضعيفة) ثم تجاه البشر بعد التحاقه بالمباحث (تحت سطوة سُلطة مُطلقة). العنف شديد الذي يمارسه سلمان يعكس مدى التشوّه الذي اعترى روحه وتغلغل داخله، حتى أصبح التعذيب وسيلة للانتقام من أي شخص سويّ تحت تبرير الدفاع عن الوطن.
---
أحيانًا يكره الإنسان النور والجمال!
يعيد الزمن نفسه ويُفاجئ سلمان بظهور غير متوقع لشخص اختفى من حياته من زمن بعيد. حميد شاكر... النور الذي بزغ في عتمة حياته عندما كان طفلًا غارقًا في اضطرابه. يشرق عليه مرة أخرى في الحاضر بسطوع صارخ، فيظهر لسلمان شناعة أفعاله ويكشف له خداع نفسه لنفسه!
حميد هو رمز الأمل -لسلمان- في الرواية. جاءت شخصية حميد مثالية أكثر من اللازم كما أن الجُمل الفلسفية التي جاءت على لسانه أكبر من أن يحفظها طفل حتى وإن كان مصدرها والده -وهو أمر غير جيّد روائيًا- لكن شخصية حميد وظهوره ومواقفه وكلماته لو نظرنا لها بشكل رمزي فنجد أنها جاءت مُتألقة.
عندما ننظر إلى حميد شاكر سنجد النموذج الذي يُجسّد كُل ما تمنّى سلمان أن يعيشه... الأسرة المُترابطة التي حلم بها: الأب المُحِب والأم الجميلة الحنونة والأخت الهادئة. أناقة حميد، ثقته واعتداده بنفسه، قدرته على الدفاع عن نفسه ضد المُتغطرسين والمتنمّرين، اعتزازه بأبيه، ذهنه الحاضر، تفوّقه الدراسي. إلا أن كل هذا خلق داخله بغضاً وغيره داخل سلمان تجاه صديقه في كثير من الأوقات كونه يُذكّره بنقصه وبروحه المشوّهة.
ولأن حميد كان يُمثّل الأمل لسلمان، ولأن الأخير كان يرى حميد الأمنية الوحيدة التي يبتغيها. وكأنه الجزء النقي في روحه الذي يحاول أن يتشبّث بالحياة. ظل سلمان يرفض خروج حميد من حياته (حتى بعد المشاجرة) فلاحقه في كل مكان، وكأن سلمان يشعر بأن مع خروج حميد من حياته ستكون نهايته. وبسبب هذا الهاجس رفض عقل سلمان -بشكل قاطع- موت حميد. وأخفى عقله هذه الواقعة وتعامل معها وكأنها لم تكن. وهذه حالة شهيرة في علم النفس تُسمى بحالة الإنكار (رفض الواقع دون وعي) وهي أحد الدفاعات النفسية اللاشعورية.
---
الأمل الأخير - تنبيه بالحرق
الالتباس الذي حدث لسلمان عند مواجهة المنشار وتخيّله أنه حميد يوضّح مدى توق روح سلمان إلى الانعتاق من السرّ المكبوت في اللاوعي. مواجهة حاول عقله التهرّب الدائم منها. مواجهة مع ضميره، نرى هروبه الدائم من بشاعة أفعاله مع البشر وتعذيبهم، باللجوء إلى السُكر وممارسة المجون رغبة في نسيان أمر لا يذكره! لكن روحه التي ناءت بعذابها المخفي عن إدراكه، كانت تنتظر اللحظة المناسبة للتخلص من ذلك السر الدفين. أتت اللحظة المنشودة كلحظة انفجار كبركان خامد قرّر أن يقذف كل ما راكمته السنين. وحينئذ صدمته المفاجأة ففقد وعيه على الفور!</spoiler>
---
ما أصعب أن نكتشف أننا أسوأ مما نظن! - تنبيه بالحرق
<spoiler>لحظة الكشف التي أفشت لسلمان عن جانبه المُظلم كانت لحظة رهيبة على نفسه. لم يُصدقها في البداية فراح عقله يستعيد كل ذكرياته دفعة واحدة، في محاول لربط كل الأحداث، تملأه الرغبة في تكذيب كل الحقائق. لكن نور حميد الساكن فيه كان أقوى هذه المرة رُبما لأن روح سلمان وقتئذ كانت موصومة بآلاف الآهات لضحايا أبرياء. وعندها وقعت ورقة التوت التي كانت تُخفي سوءة أفعاله. بدا بشعًا فاحشًا كريهًا. فتملّكته رغبة عارمة في تدمير المكان الذي شارك وساهم في تطويره "الكازينو" والانتقام من القائمين عليه "الصهيوني وناصر" كسبيل أخير للتطهّر من شناعة أفعاله. (وهي من الدفاعات النفسية للتخلّص من عبء الإثم المُرتَكب". وأصبح مراده الأخير هو إنقاذ حميد من هذا السجن لأنه روحه البريئة لا تستحق أن تكون في هذا المكان الآثم.
لكننا ندرك في النهاية أن سلمان لم يكن في حقيقة الأمر ينقذ حميد، وإنما كان يحاول إنقاذ نفسه أو بالأحرى كان يحاول أن يُنقذ ما تبقّى من ضميره. في مشهد النهاية يذعن سلمان لحقيقة موت حميد وأن عقله قد أخفى عنه هذه الواقعة. رُبّما تعمّد سلمان إيذاء نفسه بتعمّد وقوع الحادثة التي تسبّبت في عجزه. لكنه لم يقنع بأن العجز قضاء كافٍ لفعلته، لهذا قرّر كتابة قصته ونشرها في وسيلة أخيرة للتطهّر.</spoiler>
---
مشكلات الرواية
هناك اختزال واضح في بعض الأماكن من الرواية. سواء على نطاق الشخصيات أو على نطاق الأحداث.
الشخصيات الثانوية كان من الممكن أن تكون أكثر قوة.
هناك مرور سريع جدًا لقضايا هامة مثل نقطة البدون فبدت باهتة كان من الممكن أن يتعمّق فيها بشكل أكبر ولو على سبيل وقعها على نفوس الشخصيات.
شخصية حميد جاءت مثالية أكثر من اللازم.
----
لقطات رائعة من الرواية
الرمزية في موقف مرزوق عندما لمس حنان أبويّ من والد حميد كان رائعًا في إشارة إلى أن مشكلة الطفل مرزوق هي مشكلة نفسية وكأنه محروم من حنان الأب.
شخصية أبو سلمان مكتوبة بحرفية عالية، سواء في نزعته الغريبة وعقله المُشوّش وحتى في انقلابه النفسي أثناء فترة الغزو.
شخصية سلمان رائعة جدًا وُمركّبة بتعقيد ممتاز.
رمزية الكلاب الضالة وربطها بشخصية البطل ممتازة
النهاية من أجمل النهايات التي قرأتها، وهي نهاية تليق برواية نفسيّة بامتياز.
اللغة، اللغة، اللغة. لغة عبد الله البصيّص رائعة شاعرية شجيّة تستعذبها النفس وتقرأها على مهل. أعدت قراءة عدة فقرات من فرط جمالها.
----
اقتباسات
العلاقات لا تُقاس بالزمن، لأنها شيء يحدث في الروح، والروح خالدة لا تعترف بتحديدنا لانقسامات الوقت وتشظّياته في الدهر والعقد والسنة واليوم والساعة والثانية، هي مسّ يقع في الأرواح، حيث لا زمان ولا مكان، وحيث تكون الذكريات حيوات أخرى!
الموت ليس أن تمهد جثتك تحت كومة تراب، هذا شكل الموت وليس حقيقته. الموت في الحقيقة هي الوحدة، هو أن تواجه حقيقتك موتًا لموت.
أمس على نحو جليّ مدى قدرة الإنسان على بناء السدود في رأسه ليحجب فكرة ما -كالشمس مثلًا- عن الرؤية. هذا ما جعلني أفقد ثقتي بعقلي، الذي -بدوره- فقد ثقته بحواسّي التي بدأت تشكّ بحقيقة العالم الذي لا نرى منه إلا ما نريد أن نرى، ولا نشعر منه إلا بما نريد أن نشعر، بحيث يكون لكل منّا عالمه الخاص المُختلف -بكل شيء فيه- عن عالم الآخر.
العتمة تعطي الأشياء من حولنا زخمًا يُحفّز مخيلتنا على تصورها بنحو لم توجد عليه. كذلك العقل إذا فكّر في أشياء لا يفهمها فسيُترجمها على غير وجهها.
إنها الطفولة حيث تبدأ لعبة الحياة
نحب أصدقاء الطفولة لأنهم يُذكّروننا بنقائنا عندما كُنا صغارًا، قبل أن نفهم ونفكر وتتلوّث نفوسنا برغباتها في الفتن التي تبصقها الحياة.
كانت الشمس عصرًا، والشمس كانت ستبدو لطيفة لولا كلمات أبي.
لا أحد يمكنه تذكّر مرحلة كاملة من حياته بكل تفاصيلها، وبعموم لحظاتها، وبجميع أزمنتها. ما نذكره هو المُنعطفات فقط، الوقائع التي أحدثت فينا تغييرًا، واستحقت بهذا تقدير الذاكرة.
فترة الطفولة تكون موجودة بصورة حلم صحونا منه للتو، لتمضي بنا السنون وتشُفُّها حتى تتحوّل في سن متقدمة إلى الوهم الذي لا نجد بُدًّا من مراوغته بالإضافة والتنقيص.
إنهما يعيشان داخلي، لا أعرف كيف أُعبّر عن ذلك، كأنهما من الأشياء التي تجعل مني: أنا.
تنبأت بأنني سأعيش بقية حياتي غريبًا وناقصًا، وبأن فراغًا في روحي سيتّسع، وسيُمهّد لروحي الحائرة أن تحار أمثر، وسيتّسع ويتّسع، حتى يشمل حياتي بأسرها، ولن تملأه أشياء الدنيا كلها، وسيستمر الفراغ بالاتساع إلى أن تتوقف آخر دقة من قلبي.
-----
خاتمة
رواية "ذكريات ضالة" تجربة روائية أولى ممتازة للكاتب عبد الله البصيّص. أعجبتني الرواية بكل تأكيد، لكن الألم المُنساب منها سبّب لي الضيق مما جعل تجربتي يشوبها الانزعاج، وهذا أمر يعود لي ولا يعيب الرواية ولا الكاتب. لكن ذلك لم يؤثر في إعجابي الشديد بالتركيب النفسي والفلسفة الممزوجة بعناية في الرواية.
وأكرر إعجابي الشديد بفصليّ المُقدّمة والنهاية البارعة. واللتان جاءتا في أكمل صورة.
سعيد بوجود قلم روائي عربي بهذا الجمال.
تقييمي 3 نجوم
معيار التقييم:
نجمة = لم يعجبني - نجمتان = مقبول - 3 نجوم = أعجبني - 4 نجوم = أعجبني بشدة - 5 نجوم = استثنائي
أحمد فؤاد
الثالث من آذار /مارس 2022