في مهب الثورة (2)
تأليف
الفضل شلق
(تأليف)
الفتنة غواية وقتل يفتتن أهلها بأنفسهم، يمارسون القتل ضد خصومهم في الطائفة وخارجها، زهو الفتنة يعتمد على الجهل؛ ليس غير الجهلة وفاقدي العقل يقتلون من أجل الطوائف؛ ومن أجل ما يعتبرونه مقدساً.
تُخلَع رموز القداسة على رؤوس الطوائف وقادتها، صحيح أن الرمز لا قيمة له إلا بعلاقته مع الرموز إليه، لكن الرمز يحتكر القيمة، يصير هو ما يستحق الإجلال والدفاع عنه، تحل الطقوس مكان النص الأساسي، والحركات البلهاء مكان التجربة الروحية الحقيقية، والمذهب مكان الدين، والداعية مكان الله.
تنقلب الرموز على ما هو مرموز إليه، وتنقلب العقول على نفسها، تفقد قدرتها على التمييز والسوية، بالفتنة يغيب العقل، تختفي الحكمة، تتحكم المشاعر السوداء، تتلاشى المشاعر الإنسانية، تحتل مكانها مشاعر الحقد والكره والخوف، لا ضرورة لذلك أن تكون الأسباب حقيقية؛ تكفي مظاهر الإختلاف مع الآخر... غالباً ما يكون الآخر موهوماً... وغالباً ما تكون الإختلافات سخيفة أو قليلة الشأن.
مع تقلص العقل وتلاشى الحكمة يتحكم أسافل الناس في أعاليهم، ويتحول الأعالي إلى الأسافل؛ لا لأسباب أخرى سوى أن الجهلة يتسلمون القيادة، عندما يقود الجهلة، يكون المسار حتماً نحو التهلكة. الفتنة إنحطاط الطائفة إلى قطيع يقوده الجهل، ليست كل طائفية فتنة، الطائفية ضروري للفتنة، بالفتنة يتحقق الشرط الكافي، تعبّر الطائفة عن إنقسام إجتماعي، هي ظرف موضوعي، الفتنة موقف يفترض في الطوائف الأخرى ما يثير الخوف أو الإشمئزاز ليس ضرورياً أن يكون لها أسباب حقيقية، كل ما هو ذاتي يمكن أن يكون إفتراضياً، غالباً ما تؤسس الفتنة على أسباب وهمية تفترض الآخر في المجتمع حين لا يكون موجوداً؛ الآخر إعتبار ذاتي، ليست الطائفة آخر إلا بمقدار ما ينظر إليها على أنها كذلك.
تحتاج الطائفة إلى فتنة كي تصبح آخر، ليس من المفيد توزيع لقب "الآخر" على الناس، لا تعبر الفتنة عن حب الطائفة الذات المفتنة، صحيح أنها غواية نرجسية، لكن صاحبها مريض للذات، هي ذات مريضية، لا تنشأ الفتن إلا عندما تصاب المجتمعات بأمراض نفسية، تحتاج أن تكره نفسك قبل أن تكره غيرك... تكره نفسك عندما ترى أنك ومن تعتقدهم من جنسك تتحولون إلى كمٍّ مهمل. عندما يفقد الإنسان قيمته الذاتية، ويفقد إعتباره لذاته وإعتبار النظام الإجتماعي والسياسي له، ويتحول إلى متسول للمعنى والمغزى ولقمة العيش وعلبة الدواء وقسط المدرسة وإمكانية العمل، يتحول الإنسان إلى كمٍّ مهمل، يصير فائضاً إجتماعياً عندما تتحكم البطالة والفقر والمرض؛ ترى الفتنة فرصتها مع فقدان الذات للمعنى؛ مع تحولها إلى ذات مريضة، أليس غريباً أنه في بلد تتراكم فيه الفوائض المالية، تتراكم الفوائض البشرية أيضاً؟... الفائض البشري يعني فقدان الناس أهميتهم وتلاشي إعتبارهم لذاتهم، يعني أيضاً توافر شروط الفتنة إذ لا تتوافر شروطها إلا مع فقدان المعنى والمغزى في العيش الكريم؛ بالطبع تقود الفتن إلى أزمات، والأزمات تهدد الجميع، لكن النظام اللبناني محظوظ، الفائض المالي يمكن نقله إلى الخارج بسهولة، والفائض السكاني تُخلُّ مشكلته بالهجرة. قبل 1975، اعتمد لبنان على الرساميل التجارية (إستيراد، تصدير، ترانزيت... إلخ) وتراجع الإقتصاد الحقيقي في الصناعة والزراعة، أدى الأمر إلى تراكمات وفوائض مالية كما إلى فوائض سكانية، وإلى حرب أهلية ضروس؛ أما الآن فإن الفوائض المالية أكبر بكثير والفوائض السكانية أكبر بكثير (وفرص الهجرة تبدو أقل بكثير) لكن النظام السياسي غير مستعد لتلبية أي من النضالات المطلبية، فهل يكرر التاريخ نفسه؛ وإذا تكرر ألا تكون المأساة أكبر؟... الفتنة مسؤولية أهل النظام، لجهة إيقاد نارها، أو لجهة إيجاد الحلول، فهل يفتقد هؤلاء أن ما لم يحلُّ بالهجرة في العام 1975، سوف يُحلّ الآن بالفتنة؟...
جاءت هذه المقالة تحت عنوان "الفتنة ليست حلاً لما عجزت عنه الهجرة" وفي هذه المقالة نقد إجتماعي ونقد سياسي وتحذير... وكشف عن وجه الدولة اللبنانية... هموم وهموم تثقل على المواطن بحياته اليومية والمستقبلية... المواطن اللبناني والمواطن العربي بصورة أشمل... الكلّ يعيش هموماً تحت سماء الأنظمة العربية المستبدّة التي أبت إلا تحريك مواطن القهر والظلم لدى مواطنيها... فتفجرت ثورات... ثورات غضب... ثورات نقمة... ثورات ضعفاء نأت بهم الإهمال دهراً... هموم وقضايا وهواجس العرب ومواطنيهم سيطرت على أجواء هذه المقالات التي مثلت وسيلة تعبير لما جال في خاطر كاتبها... في محاولة للكشف عن مرض... وربما وصف الدواء...