"السيد" الولىّ، و"السيد" الغائب..
البحث عن الخلاص.
"ليالى السيد" رواية تجرى أحداثها فى إحدى قرى الصعيد، التى لم يطلق عليها الكاتب "أحمد جاد الكريم" اسمًا مُعينًا؛ ربما ليجعلها رمزًا لكل قرى الصعيد التى تعيش عيشها، وقد قدم من خلالها رؤيته لعالم القرى فى الصعيد بما تحتمله من شمس مُحرقة، وطبيعة فى الغالب قاسية بعيدًا عن الوادى، وعالم يمور بالمشاعر، والأفكار، والأحلام، لكن أهله فى الأغلب يستسلمون للخرافات؛ حين يفشلون فى مواجهة واقعهم القاسى بأساليبهم البسيطة.
وهى إذ تعرض واحدة من أهم الظواهر، لا فى الصعيد وحدها ولا فى مصر كلها فقط ولكن فى الواقع العربى كله، فإنها تتسلح لذلك بمجموعة من الجماليات التى تتسق وتتماهى مع جوهر المضمون؛ رغبة فى تفسيره بنفس أدواته من شعر صوفي، ولغة مجازية، وأحلام، وألوان وظلال؛ لتفسر هذه الظاهرة أو العادة التى تتشابه عند كثير من البلدان وإن اختلفت فى مظهرها الخارجى فقط، ثم تحاول طرح أسئلتها الجمالية من خلال السرد، وبواسطة الأحداث، والشخوص؛ لتحدث حالة الجدل المطلوب بين الرواية والقارئ فى النهاية، فيستوعب عالمها، ويحاور أفكارها ورؤاها، ويصل إلى خلاصه الشخصى فى هذا العالم، مع محاولة كل شخصيات الرواية الوصول إلى الخلاص الشخصى لأنفسهم.. فهل نجح الروائى نجاحًا كاملًا فى عرض رؤاه الفنية الجمالية، والفكرية الفلسفية فى هذه الرواية على الوجه الأفضل؟
***
فى انتظار المعجزة.
مقامات الأولياء لدى الصوفية، أو الأضرحة كما يطلق عليها البعض، هى محور الرواية.. الفُلك الذى ينتظره الناس؛ لينقذهم من الغرق، والغرق هنا هو: العنوسة، لبس الجن للآدميين، الفقر، غياب الأحباب، العلاج النفسى من الاكتئاب، الكشف عن الكنوز، والراحة فى واحة الغموض بديلًا عن قسوة الواقع الواضح وضوح شمس قاسية لا ترحم، وليل زمهرير بلا رفيق.
يبدو للقارئ أثناء قراءته للرواية أن مقام السيد، الذى لم يسميه الكاتب باسم محدد؛ ليحوله من الحالة المتجسدة إلى الرمز كالقرية تمامًا أنه – المقام – لا يشكل بناء مربعًا فوقه قبة، وتوجد داخله عظام السيد، وتطوف حوله روحه الكريمة فقط، بل يشكل هذا المقام مرتكز للقرية، ويعطيها أفضلية ما عن بقية البلدان والقرى المجاورة التى يأتى أهلها أيام المولد، ويشكل أيضًا طريقًا لنجاة المعوزين وأصحاب الحاجات، ففى أيام المولد تُذبح الذبائح، ويوزع الأغنياء ما تيسر على الفقراء؛ فينتهى الجوع فى تلك الأيام، وتلتصق الأمنيات بقماش الضريح فى انتظار التحقق، ويأتى الغجر بألعابهم العجيبة، وتلك الأجواء التى تخلط ما بين روحانية التصوف حول الضريح، والانفلات الغرائزى مع نساء الغجر فى الخيام المنصوبة على أطراف البلدة.
إنها، فى رأيي، ثقافة الانتظار.. انتظار تحقق معجزة بسبب "السيد" صاحب الضريح، ساهم فى تشكيل تلك النظرة لدى وجود شخصية أخرى تحمل نفس الاسم فى القرية "السيد" ولد العائلة الأكبر والتى ترصدها الرواية مصائر شخصياتها باعتبارها النافذة التى تُرى من خلالها الحياة فى تلك القرية، بتنوعها وتباينها بين أمنيات طيبة، ورغبات شريرة فى الثراء دون عمل، و"السيد" الآخر هذا تنتظره العائلة خلال أيام المولد حيث أنه أخبرهم بقدومه على باخرة قادمة إلى مصر بعد خمس سنوات من الغربة، فالانتظار هنا لا يشكل حالة واحدة، بل يشكل فلسفة كاملة، ترضخ للغيبيات رضوخًا كاملًا منحية فى ذلك إرادتها، وعقلها.
***
المفارقة هنا لا تنبع من تباين عوالم الشخصيات وهمومها، لكنها تنبع من العلاقة بين الحاضر والغائب، فمن لديه قوة التغيير هو الغائب: (السيد الولى، والسيد الغائب)، ومن لا يملك إرادة التغيير فى واقعه الذى يعيش فيه هو الحاضر والموجود دومًا (أهل القرية).
لم يقع الروائى فى جزء كبير من الرواية أسيرًا لأفكار ذهنية ينقلها فى شكل حِكم وأحكام دينية ومواعظ، ولا اتخذ دور المُصلح الاجتماعى الذى ينبه الناس إلى خطورة الانسياق وراء المجهول، ونكران ما يمتلكون من قوة عقلية، وبدنية لتغيير واقع حالهم، بالاعتماد على إرادة نابعة من فهم لطبيعة الحياة السوية. إنما اتخذ طريقه جماليًا بصبر ودأب، حريصًا على بناء روائى متماسك، بلغة سردية مطعمة بشاعرية تطرح رؤاها وأسئلتها من خلال شخصيات متعددة ومتباينة فى الفكر والحالة الاجتماعية والجنس الكبرى حول: الحب – الزمن – الخلاص، وتصير القرية رمزا لواقع مصرى شديد التشابك والتعقيد، ومرتم تحت هذا المصير الذى يحكمه الموتى، لا الأحياء.. وهنا سأستعرض أهم ملامح هذا البناء الروائى:
* الشخصيات:
1- السيد صاحب المقام، واحد من الأشراف تُوفى وبُنى له ضريح. يتوسل به الناس إلى الله؛ ليقضى حاجاتهم، وينقذهم من البلايا والحظوظ السيئة التى تكويهم، وهو محور الرواية، وأيام مولده هى الإطار الزمنى الذى تدور فيه أحداث الرواية.
ولم يذكر اسمًا محددا له بعد لقب "السيد" لشيئين: أولًا: لمنحه معنى السيادة المطلقة فى الأجواء الروائية دون منازع، وثانيًا: لإحالته كرمز لفكرة مقامات الأولياء نفسها، وهو حاضر بقوة من خلال مقامه، ومولده السنوى، وتجسده لبعضهم فى الأحلام كما حدث مع "محمد سالم".
2- السيد الثانى، هو ابن العائلة الفقيرة التى تعيش فى نفس القرية، وهو شاب مثقف أضطر لترك مشروعه الفكرى والثقافى إلى حين ليسافر إلى السعودية، حيث يكد؛ ليوفر لأهله عيشا كريما.
3- محمد سالم، صديق السيد، مثقف مثله، لكن الوحدة تلقيه فى بئر الاكتئاب. كهل. يطمح للزواج من ريانة ابنة الشيخ "عبد العال"، لكنه يتراجع فور علمه برفض الشيخ لكل من تقدم لخطبتها، ثم يرى فور وصوله إلى القرية؛ للاحتفال بالمولد "نُهى" أخت صديقه السيد، وقد تلبسها (خراط البنات) فحولها من طفلة كان يراه سالم قديمًا إلى صبية وافرة الحسن، والدلال؛ فيشتعل قلبه بالحب ويتمنى لو يتزوجها، غير أن "عبد العاطى" يفاجئه بخبر يصعقه، وهو أنها ستتزوج من رجل ميسور الحال فى القريب، بل ويهدده بشكل ضمنى، داعيًا إياه ألا يذكر اسمها أمامه مرة أخرى.
4- نعمة، هى الأخت الكبرى للسيد المسافر، وهى، مصابة فيما يبدو بمرض نفسى كالهيستيريا، أو عضوى كالصرع، أو مزيج منهما، فتنتابها حالات تصعق فيها، وتتشنج أعضائها، ويخيل إليها أنها ترى أشياء وصور، بل تشعر فى بعض الأحيان وهى ساهدة أن هناك قوة فوق طبيعية تعاشرها كما يتعاشر الأزواج، تعتقد أنها ممسوسة بجنى لا تستطيع الخلاص منه، ولا ممارسة حياتها الطبيعية أبدًا كالحياة مع إخوتها أو الزواج، فهى تعيش فى حجرة ملاصقة لحجرة أهلها، وتقضى الليل فى الابتهال للسيد الولى أن يرحمها من ذلك الجنى، وتدعو أيضًا لسيد أخوها بالعودة سالمًا حتى يلم شمل الأسرة بقلبه المحب، لكنها فى النهاية، ورغم تكشف زيف التوسل بالمقامات، تصنع صندوقًا خشبيًا وتضعه داخل حفرة فى حجرتها، وتنام فيه، وتغلقه لتموت منتحرة حين تسحق أمانيها.
5- عبد العاطى، الأخ الثانى للسيد الغائب، وهو شخص أنانى. مُنفر، لا يفكر فى الآخرين. إنما تقبع أحلامه فى الحصول على كنز فرعونى أسفل دار العائلة، كما أخبره شيخ متجول منذ عام، لذلك هو يحفر بمساعدة بعض العمال والبنائين حتى يجد بعض التماثيل الصغيرة، لكن الظروف تعاجله فيسقط البيت المتداعى، نتيجة عمق الحفر على رأسه ورؤوس مساعدية فيموتوا جميعا فى النهاية.
6- الشيخ عبد العال، شيخ القرية الصغيرة التى تنام أسفل الجبل، هو أيضا راعى المولد السنوى للسيد صاحب المقام، لكنه شخصية أخرى غامضة، لا يراه الناس إلا أياما معدودات كل عام.
هذه الشخصيات الست توزع بينها السرد الروائى بشكل عادل، ليعرض من خلالها حياة إنسانية غاية فى البؤس والشقاء، والغموض، والرغبة فى تغير الحال الذى لا يتغير رغم كر السنوات فى الابتهال للسيد صاحب المقام. والكاتب يعرض سمات كل شخصية منها مرة واحدة حين يأتى ذكره فى الرواية.
فى الرواية شخصيات أخرى ثانوية، تسهم فى تنامى الحدث كما أنها تبدو فى الرواية لا كشخصيات حية، ولكن كأجواء لونية تسهم فى تشكيل اللوحة الثرية للقرية كـ: الغجر الذين يأتون مع هلول المولد ويرحلون بانتهاء أيامه، والغرباء، وصابرين فتاة المولد الداعرة التى تقتل غلطة بحجر سقط على رأسها.
المكان والزمان: قرية صغيرة من قرى الصعيد، وصفها الكاتب فى بعض الفصول، وسرد بعض كوارثها الماضية كالسيل الذى جرف بيوتها، وقبورها ذات عام. أما الزمن هنا فهو زمن كرنولوجى، يبدأ قبل المولد بيوم وينتهى بانتهاء المولد السنوى للسيد فى تتابع واضطراد، لكن الأحداث يتم سردها فى هذا الزمن القصير بطريقة التداخل بين الماضى والحاضر، والاستدعاء الذى تقوم به كل شخصية بطريقة السرد، أو المونولوج الداخلى.
البناء: هذا بناء روائى محكم فى الغالب، فهو يوزع السرد على أصوات عدة، ويوزع الضوء على عدة بؤر؛ ليلم برؤية شاملة من جوانب مختلفة ومن عقول لشتى لفكرة واحدة، وقد اعتمد البناء على ضمير المتكلم فى البداية، ليسرد لنا حدثا فوق طبيعى لكنه راسخ فى المخيلة الشعبية، إذ يلتقى "محمد سالم" بطيف السيد المتوفى صاحب المقام فيما يشبه الحلم، ويدعوه "السيد الولى" إلى مرافقة الشيخ "عبد العال" طوال أيام المولد، ثم اختفى هذا الضمير ليحل محله راوٍ عليم، وبسلاسة لم تشعرنى بوجود نتوء فى السرد، وهو حتى فى استخدام ضمير الغائب كان يقتطعه بمنولوجات داخلية لكل شخصية فتفهم من ذلك أنه يدمج الضمائر بصورة مميزة؛ ليخدم رؤية الرواية فى النهاية. أما التنقلات السردية من حدث لآخر، ومن فكرة لأخرى، فكانت بمجموعة من الفصول المرقمة من 1- 18 ولكل فصل عنوان من كلمة واحدة: ( 1- ما قبل الليالى. 2 – لقاء. 3 – صلاة. 4 – عناق. 5 – سيل. 6 – أمنية. 7 – شرر. 8 – نُهى. 9 – غِلظة. 10 – نفحة. 11 – الخطيئة أنثى. 12 – عناد. 13- لظى. 14- أنين. 15- ذِكر. منفرد: تكلم السيد. 16- غطاء. 17- وديعة. 18- حلم ).
ومن الملاحظ أن الرواية تبدأ بحلم – أمنية، وتنهى بحلم- فاجعة، ما بينهما أحداث شتى، مستخدما فى ذلك لغة شاعرية فى أحيان كثيرة تُعلى من قيمة المجاز والاستعارة والكناية، حيث تتماهى مع أجواء التصوف والتجارب القاسية التى يعيشها الأبطال.
- خلاصك فى خلود آثارك.
- لا أود الخلود، بُغيتى الخلاص.
هذا حوار فى فصل من فصول الرواية بين الشيخ "عبد العال" الذى يدعو سالمًا ليترك أى أثر فى الحياة يُخلده، لكن سالم الواقع فى الخطيئة يدرك أنه لا يود ترك أثر لأنه لا يفكر بالخلود قدر ما يحلم بالخلاص، ذلك الذى تبحث عنه كل شخصيات الرواية بطرق شتى دون أن يسموه باسمه، وخلاصهم يتلخص فى شطرة قاله السيد فى الفصل المعنون: (هكذا تكلم السيد) حين قال: "لا تغادر اللحظة، أوقف نزيف الزمن". فها نحن أمام رواية تنعى دوران الزمن، وترى خلاص الإنسان بشكل رمزى محتزلًا فى إيقاف هذا الزمن الجامح؛ ليفهم الإنسان ما يحدث له.. ليوقف العجز والشيخوخة والمرض والموت، لكن أحدا لا يستطيع إيقاف الزمن، لذلك لن يتاح لأيهما الخلاص فى النهاية فالكل معلق بمصائر الآخرين، والكل ينتظر معجزة ما لن تحدث أبدًا لأنه لا سبيل إلى فهم الحياة ببساطة، أو تحقق أمنيات الإنسان بالتعلق بالوهم دون الفعل.
فى النهاية أود أن أقول قانعًا بأنها رواية أعلنت، رغم بعض الملحوظات، عن مقدم روائى حصيف لديه قدرة على بناء روائى محكم، كما يملك رؤى مختلفة عن السائد ويود طرحها بشكل مشوق، وبتشكيل سردى مميز، ولعله يظفر ببغيته، وينقل رؤاه حول الإنسان والعالم بشكل مكتمل فى رواياته القادمة.
فكرى عمر
24/7/2014م