عالم جبران هو العالم الوحيد الذي يجذبني رغما عني إلى جماله، ويدخلني في متاهات حروفه المتناغمة بروح الفلسفة وعبق المعاني والعبر، فمع كل قصة في كل ما كتب استخلص كما جميلا من العبر التي غفلت عنها أو لم يستطع عقلي صياغتها بالطريقة التي صاغها بها جبران خليل جبران ...
كتاب السابق هو مجموعة من القصص القصيرة والقصيرة جدا ورغم قصرها إلا أن معناها وهدفها كان أكبر وأعمق بكثير مما يمكن تصوره، وفلسفته وفكره الجميل انعكس على اللغة التي كتب بها مجموعته القصصية...
وقد اهتم جبران كعادته بفتح باب المحبة، الظلم، النقد، الطمع ... وغيرها من الصفات البشرية التي نجح إلى حد بعيد في تصويرها ..
مما اقتبست:
ما اكثر الذين يعتزمون مملكة الأحلام لئلا يظهروا للناس أنهم بعيدون عمن لا أحلام في نفوسهم، والذين يعتزلون مملكة العري، ساترين عرية نفوسهم، حتى لا ستحي الأحرار من النظر إلى الحق عاريا والتأمل بالجمال سافرا واعظم من هؤلاء جميعهم ذلك الذي يعتزل مملكة الحزن، لكي لايظهر للناس معجبا مفاخرا بكآبته.
***
أوهل يستطيع السجين في ظلمات الهيكل أن يرى قباب الهيكل المذهبة؟
***
قالت صحيفة ورق بيضاء كالثلج :" قد برئت نقية طاهرة وسأظل نقية إلى الأبد ، وإنني لأوثر أن أحرق وأتحول إلى رماد أبيض ، على أن آذن للظلمة فتدنو مني وللأقذار فتلامسني" . "
فسمعت قنينة الحبر قولها وضحكت في قلبها القاتم المظلم ولكنها خافت ولم تدن منها وسمعتها الأقلام أيضا على اختلاف ألوانها ولم تقربها قط.
وهكذا ظلت صحيفة الورق البيضاء كالثلج – نقية طاهرة – ولكن ... فارغة.
***
أحببتك أيتها المرأة الساهرة لياليها، مشفقا عليك.
احببتك أيها الثرثار قائلا في نفسي: "إن للحياة كثير فتقوله" .
وأحببتك أيها الأبكم قائلا في سري:" حبذا لو أسمع نطقا يعبر عما في صمته".
***
الحرب والأمم الصغيرة
كان في أحد المروج نعجة وخروف يرعيان. وكان فوقهما في الجو نسر يحوم ناظرا إلى الخروف بعين جائعة يبغي افتراسه.
وبينما هو يهم بالهبوط لاقتناص فريسته ، جاء نسر ٌ آخر وبدأ يرفرف فوق النعجة وصغيرها وفي أعماقه جشع زميله. فتلاقيا وتقاتلا حتى ملأ صراخهما الوحشي أطراف الفضاء. فرفعت النعجة نظرها إليهما منذهلة وألتفتت إلى حملها وقالت له:
!. تأمل يا ولدي ، ما أغرب قتال هذين الطائرين الكريمين
أوَ ليس من العار عليهما أن يتقاتلا ، وهذا الجو الواسع كاف ٍ لكليهما ليعيشا بسلام ؟
ولكن صلّ يا بني . صلّ في قلبك إلى الله ليصلح ما بين أخويك المجنحين ..
فصلّ الحمل من أعماق قلبه...
***
الطمع...
رأيت في جولاني في الأرض وحشا على جزيرة جرداء له رأس بشري وحوافر من حديد.
وكان يأكل من الأرض ويشرب من البحر بلا انقطاع.فوقفت أراقبه ردحا,ثم دنوت منه وسألته قائلا: "ألم تبلغ كفافك بعد؟؟ أليس لجوعك من شبع أو لظمأك من ارتواء ؟").
فأجابني وقال:"نعم ,نعم قد بلغت كفافي بل قد مللت الأكل والشرب ولكنني أخاف أن لا تبقى الى غد أرض لأكل منها وبحر لأرتوي من مائه".