قراءة محدودة في رواية الرقص على طبول مصرية للروائي الكبير فؤاد حجازي
ان ضخامة العمل جعلتني اشعر بالضحالة امامه فاكتفيت بالتنويه وحسب القارئ انه سوف يجد متسعا من الكلمات والجمل ما يجعله يتفهم تماما مقصدي.
اولا المقدمة:
ما بين رفض وايجاب تاه التاريخ المكتوب بصيغة ادبية بين اروقة الفكر والنقد ففي حين يؤكد بلزاك الواقعي الفرنسي على ان الرواية والتاريخ هما كائنان يسيران في ذات الاتجاه يعود فوكنر الموضوعى الاميركي ليشير بان الرواية هى فن يسير في عكس سير حتمية التاريخ ويظل التاريخ متأرجحا لدى الطبيعيين امثال اميل زولا فلا هو قيمة ولا هو رقم اما الروائي التاريخاني الاشهر الاسكتلندي ولتر سكوت صاحب رواية الطلسم عن الحروب الصليبية فهو يذهب الى كون الرواية بالاساس هى نزعة تاريخية يخوض فيها المؤلف بانحياز ما قد يتحرج منه المؤرخ فالبيئة الادبية الخصبة للرواية تنزع حقا لها مما تواتر شفاهة او تدوينا لتعيد صياغته في اتجاه الاجتماعي وهو الدور المنقوص في بيئة التأريخ الواقعي للمؤرخ وفي حين يذهب رولان بارث على اعتبار الرواية هى فن قابل لترويض المجتمع من خلال التكيف ينزع الروائيين الجدد اى صفة للالتحام المباشر بين الرواية وبين اسقاطات متعمدة بعينها سواء كانت ماوضاوية او انية او حتى محتملة
وهنا يتشكل السؤال هل نستقي التاريخ من الروائي ام من المؤرخ ام من كليهما ام من لا احد منهما وحقيقة لا توجد اجابة شافية حتى اللحظة لذلك السؤال المعجز بيد ان حتى المؤرخ لا يكتب تاريخا خاليا بشكل مطلق من انحيازات مسبقة او حتى رهينة اللحظة الاتية على لحظة الحدث التاريخي المراد تأريخه بالتالي لا يكون الروائي في حال افضل الا انه يمكنه استثمار تلك المعضله في صالح الفن الروائي من خلال التاريخ غير المنجز على عكس المؤرخ الذي يقدم تاريخا منجزا وخالصا في افضل حالاته والتاريخ الغير منجز بمعنى انه مستمر في حركته على قدر من توابع دفقته الاولى هو ما قد يشفع لفن الرواية هذا القدر الوفير من الانحيازات التى تتلاقح مع ما اضمره المؤلف في وعى قارؤه الضمنى ليمرر من خلاله ما اراد ان يقوله و يؤكده من افكار استوت عليها ضماؤره ولذلك على سبيل المثال لو عدنا الى سكوت مؤلف رواية الطلسم وهو الدواء الذي بعثه صلاح الدين الى عدوه ريتشارد قلب الاسد فاننا نجد المؤلف دونما ان يتاكد من كون تلك الواقعة قد حدثت بالفعل ام لا وان كنا نحن نميل الى عدم حدوثها فهو يمرر ذلك من خلال الصراع بين النبلاء وهو في احسن احواله صراع ايدولوجي جلب الاعجاب المتبادل بين زعيمي الفريقين المتناحرين فلم يعد الموضوع حرب تحرير ارض ضد مغتصب بل هو تلاقي افكار من هنا ومن هناك حيث الصلاحية تكمن في توقيت الطرح وليس في الطرح نفسه هكذا اذا ينجح الروائي في جعل الحدث التاريخي ليس فقط ممتدا انما ايضا شاهدا وفي كل لحظة على اعادة تدوير الدوافع والاحالات والمالات في كل لحظة قراءة وهو الامر الذي لا يقع حين قراءة التاريخ من مصدره الصلب الجامد الغير مرن الذي يجب ان نتصالح انه حتى في اقصى حالاته الحيادية لدى المؤرخ يظل حبيسا لدى الموقف المعد سلفا مهما انكر المؤرخ نفسه ذلك .
تقع الحرب داخل التاريخ وليس خارجه بينما تقع الرواية حتى التاريخية منها خارج التاريخ وليس داخله مع الاخذ في الاعتبار اننا نتكلم هنا عن الحرب كمادة وقعت تحت مخدر الكتابة وليست الحرب كحدث عسكري انتهى في زمن الفعل انتصارا لفريق مقابل هزيمة لاخر اما التاريخ في الرواية فهو ما وقع بالفعل بالتالي يصبح مادة يستدعيها السرد من خارج ذوات شخصياته سواء كان المؤلف هو البطل السارد او هو الحكاء بضمير كانوا وزعموا وذهبوا وفعلوا الخ .حسب المعادلة البسيطة انا اتحدث عن فلان لاننى خارجه فلو كنت داخله ما تحدثت واكتفيت بحوار داخلي سري واذا افصحت عنه فاننى اريد ان يسمعنى الاخر الذي هو خارجى لاتحرر من الذات واشاهدها بعين اخري .
والحرب ليست مجرد الحدث العابر العاصف انما هى دوافع الماقبل وترتيبات وتخطيط التنفيذ ثم لاحقا ما سوف يتاثر به كلا من التاريخ والجغرافيا بتوابع الحدث الحرب اذا وفي كل لحظة هى نقطة تحول تاريخي منظم ومنتظم جدا بحيث ينعطف عندها التاريخ الذى هو كما اسلفنا سيدخل الى الحيز الروائي من باب الاتى من الخارج وليس القابع في الداخل لكن الحرب في الفن الروائي هى حدث يتجاوز كلا من الزمن والمكان الى الانسان نفسه كيف كان وكيف سوف يكون مرورا ب كيف نفذ.
الحرب العسكرية هى ملحمة تتعدد شخوصها مهما ضاقت امكنتها وازمنتها بالتالي وبطرح الزمان والمكان او على اقل تقدير تثبيتيهما يبقى لدينا الانسان وهو هنا اناس كثر على جانبين متناحرين يسعى كل منهما جاهدا الى فرض سيطرته على الاخر ومن افضل الاعمال الادبية تلك التى تبين الانسان والانسان فقط من كل جانب بعيدا عن مجريات الحرب كالة عسكرية وذلك من خلال المتشابه والمتنافر بين الفريقين المتحاربين ويا حبذا لو نشا حوار بينهما لا تكون فيه الحرب مادته الاساسية ولا شك اننا راينا ذلك في الاعمال سواء الادبية او الفنية التى تحدثت عن الحرب العالمية الثانية.وهذا ما يندرج تحت بند الذكريات التى يبثها المؤلف في شرايين شخصياته ورقية كانت ام بصرية تشخيصية لتحاكي شيئا من واقع كان ولا يزال محتملا .
واشكالية الكتابة عن الحرب انها تقريبا كانت المادة الاولى لكل الانواع والاجناس الادبية فتري كيف كانت الادويسة الهومرية وكم شكلت حرب ذي قار شغفا وولعا لشعراء العرب الجاهليين وان كنت افضل شعراء ما قبل البعثة بدلا من الجاهلية
من كل ما فات يتبين لنا كم هى مهمة شاقة وصعبة الكتابة الروائية عن الحرب والى اى مدى تكون مغامرة صعبة ومنهكة ليس فقط لكاتبها انما ايضا لقارؤها بالتالي وبطبيعة الحال لنقدها وتبيان مكامن ابداعها وثغور نواقصها مثلما نحاول بتواضع ان نفعل الان .
ثانيا القراءة:
بداهة ان نبدا من العنوان الرقص على طبول مصرية
وتمعن معي عزيزي القارئ هذا العنوان الذي اكسبه المؤلف القدرة على التحليق والمناورة
الرقص بما فيه من حركة وأداء وانتشاء سواء كان تعبيرا عن فرح أو لمنع كآبة ما من التوغل
وطبول تلك الآلة الموسيقية الايقاعية التي لا يخلو منها أي حالة من حالات التعبير الغنائي شعبي ريفي دولي لكن دوما تبقي حالتها الشعبية الأكثر الحاحا ثم الرقص علي طبول تؤدي حتما الي نوع من تلقائية الحدث الذي به عدة حركات وحواس فهو رقص وهو ضرب بالكفوف علي اغشية الطبول اذا يتخلله سمع ورؤية ثم أخيرا مصرية ,فيكتمل العنوان الرقص علي طبول مصرية لتصبح الحالة برمتها مؤدية الي الوطن منه بدئت واليه انتهت هذا العنوان به سيميائية الإشارة كعلامة الرقص وما تحدثه الكلمة من تعبير صوتي مصاحب للحركة وبه أيضا دلالة الإيقاع للطبول ثم به أخيرا الاتصال بالأرض هو اذا عنوان يجمع بين شقي السيميائية التواصل بما في جمع طبلة وتحويلها الي طبول والدلالة بما في العنوان كله من ارتباط عضوي بين النسق و بين السياق بين الكلمات كوسم صوتي يتحقق حين القراءة وبين ما تحمله نفس الكلمات من أصوات يتحقق فيها كلا الامرين سيميائية التواصل كما عبر عنها جاكوبسون و سيميائية الدلالة كما بشر بها رولان بارث
كما ان العنوان برمته يختزل قضية الرواية الضخمة في كلمات قصيرة مؤدية باقتدار او يحيل الي ما أراد به الكاتب ان يصلنا اليه مبكرا من حالة النشوة بالانتصار وتفرد هذا الانتصار وكأنه يستخدم أسلوب الكتفرة وهو يعني ما سوف يتم شرحه لاحقا من خلال المضي في القراءة.
اذا هو الرقص حربا كان او توديع عزيز في جنازة او فرحا وتهيصا في حفلة زفاف ما الرقص كاول تعبير جسدي بشري يؤدي الى معنى ما الرقص كاول اشارة سيمائية مارسها الانسان بالفطرة والغريزة ثم بالحيلة والتعبير والفن الرقص كلغة عالمية لا تخطئ ابدا ترجمتها .
الرواية جد ضخمة ومليئة بالاحداث والشخصيات ولعل ذلك يبرر للكاتب تلك المتاهة التى قد تصيب القارئ غير المتمعن وحتى المدقق في تضفير الاحداث بالشخصيات بالازمنة والتواريخ ففي حين يبدا الفضاء السردي بطلعة الطيران الحربي المصري ظهر يوم السادس من اكتوبر وفرد الشرطة العسكرية ينظم المرور المتجه الى الضفة الشرقية للقناة لا نلبث ان نعود قسريا الى الوراء الى العام سبعة وستون حيث مقدمات النكسة الهزيمة لم يكن التنقل الزمنى هنا سلسا لكننى سوف اعتبره مقصودا لاضفاء مزيدا من الربكة والخداع حيث لا يمكن فهم انتصار اكتوبر دون لوك لمرارة هزيمة الخامس من حزيران والارقام وصدفوية ترتيبها العجيب تمنح الحدث شيئا من دهشة الرقم خمسة والشهر ستة هى الهزيمة ثم ياتي الانتصار متخذا من الرقم الاخير بدايته حيث يوم ستة حرب الايام الستة التى اكلتها حرب الساعات الستة .
لاشك ان تلاحما غير عادي ناشئ بين الحياة العسكرية المنضبطة والعيش في بر مصر المتسمة بالفوضي والعبثية شئ من رحرحة المدنية يذهب الى انصياع الاوامر العسكرية قبالة ضبط مواعيد تعيد الهيبة للوادي الطيب لاشك ايضا ان ثمة القاب واسماء ورتب تتداخل فيما بين العسكري والمدني وهى ميزة شبه وحيدة قلما تحدث في بلد اخر فعميد الجبهة يساعده عميد كلية الهندسة في التخطيط العلمي للمعركة مثلما الجمع بين حلاوة الخوخ السيناوي الهش وصلابة نظيره في الوادي الاقل حلاوة
وليسوا بغير صليل السيوف ..يجيبون صوتا لنا او صدى
ترى هل كتب على محمود طه هذا البيت لنا ام لهم فيتبدل حال الامس الحزين الى واقع اليوم المشرق لكن يظل البيت شاهدا لم يتغير ليصف ذات الحالتين المتناقضتين .
رواية عن الحرب وعن اسرارها وخباياها عن الجيش وعن ظهيره الشعبي
عن التوقيت وعن الرؤيا وعن الصبر
ورغم الصوت الهادر لطلقات البارود ودانات المدافع استطاع المؤلف ان يقف بنا لحظات دون زعيق نافر لنلتقط انفاسنا المتعبة ونغوص نحو دواخلنا المنهكة
الكتابة عن حرب السادس من أكتوبر جد صعبة وهي مهمة شاقة ولن تكون بحال مجرد رصد عسكري لحرب مجيدة حررت الأرض والانسان المصري والعربي بل سوف تتجاوز ذلك الى رصد ما هو بعد المعركة الى ما هو أجدى وانفع من الرصاص الى المعركة مع الضمير ذاته والى استلهام روح العبور وتصديرها الى عتبات النفوس لتنتشل الوطن من ضياعه في غب التفاهات والترهلات والسأم.
لست هنا بصدد نقد عمل ضخم كهذا بل إنني وللدقة أجد نفسي مرغما وبأريحية كاملة لتقديم واجب التحية للمؤلف تحية عسكرية جادة ومنصرمة وتحية من القلب كمواطن مصري وجد في جيش بلاده ملاذا للعبور من الياس الي الامل.
وعلى يقين من ان الجيش الذي حارب بشرف وكبرياء يعرف انه جزء من نسيج هذا الشعب العملاق وليس حاكما له او مالكا للأرض التي احتوت الجميع بجبر خواطر الضمائر التي اتعبتها عتبات الرياح الغير مستقرة.
هي رواية عن الماضي لكن لا شك انها تفتح الافاق لرؤية الحاضر
هي حكاية عما حدث من اجل ان نستوعب الدرس وقيمة العطاء فتتحول الى حكاية عنا جميعا وعن كل الأزمنة ما فات وما هو الان وما هو قادم بإذن الله
عن نسيج غزل المحلة الذي يستر بيوت العريش الحرة
عن حائط صواريخ البطولات
عن خطط المكر والدهاء والمبالغات الإعلامية لثغرة هشة كانت فيما بعد وبالا عليهم
يا سادة هناك فارق ضخم بين عسكرة الإدارة وبين عقيدة جيش حر اخذ على حين غرة في حرب الأيام الستة واسترد شرفه في يوم العبور فما اشد حاجتنا اليوم لذلك النوع من الجيوش وتلك الذائقة من الشعب التي سادت الأرض المصرية في يوم ستة أكتوبر
كل ما اتمناه وارغبه ان يتحول هذا العمل الي فيلم سينمائي لا يقل زخما عن الكتابة ليسجل بالصورة المتحركة هذه الملحمة العبقرية الخالدة فيلم يتجاوز الايهام واللا ايهام السينمائي الي يقين حي يحفر بوشم غائر قصة كفاح هذا الشعب العريق.
المباشرة النصية ثلاثة مستويات الوصف دون تحليل والاشارة دون تلميح والخطابة على هيئة العظة والدرس وحتى لا ادخل في مشكلة بخصوص المستوى الاول فانا لا اعنى به الاجابات تلك ليست قضية الادب انما اعنى به عمق العلاقة بين الاسباب حين الوصف الفوقي خاصة في فنون السرد ويبقى للشعر حالته القصوى في الايجاز والتدليل من بعيد وهنا يتكون سؤالي الا يمكن ان يكون الهدف وسياق الوسيلة التي وصفت الهدف مبررا ولو على استحياء لهذه المباشرة الا يمكن ان تكون هذه المباشرة حيلة جمالية تقف موقفا محايدا بين القدرة والرغبة بين ما نحب ان نكتبه وبين ما نستطيع ان نكتبه الا يجوز لهذه المباشرة ان تكون جسرا بين الخاص والعام وبين النخبوي والعادي ليتلقاها الجميع كل حسب رؤيته فمباشرة البعض قد تكون عمقا للأخر والعكس صحيح .ايحق للمباشرة ان تمنح جواز مرور مجرد كونها شارحة لمجموعة من نصوص مبدع ما ثم وما السبيل لعدم كون المرء مباشرا مزيد من احاجى التغريب واكروبات التمثيل والمحاكاة وصور ومشاهد وتتابع وتزامن ومجاز وكنايات لدى نص من المفترض انه مفسر لذات ما فات ايكون التفسير والتأويل هو الاخر ملغزا ويحتاج لتفسير اخر واخر وهكذا في دائرة لا فكاك منها.
بالطبع ليس مبررا وبالتأكيد لا توجد اية مبررات قد تخون الكاتب في لحظة او لحظات لان يخاطب قارؤه دون مواربة ودون حجاب من لغة تدور حول الخط المستقيم الذي يعد أقصر الطرق للوصول بين نقطتين فلابد من تعب القارئ ولا مفر من معاناته ليفهم ما اراد الكاتب فليس من الانصاف ان يتعب الكاتب ويبذل الجهد ويأتي القارئ ليسعد بنصوص هشة ينقصها ثراء المعمار حتى ولو لم يكن لهذا الثراء الباذخ أي وظيفة تذكر في اذكاء موقف النص
ولذلك ونظرا لطول النص فقد حاول المؤلف قدر استطاعته ان يبدل الادوار مرغما فتارة مباشرا وأخري مفلسفا لعل وعسى ان يغفر احدها لبعضها وان يخرج النص في عمومه مصيبا لدهشة ما وناثرا ملح الارض على الجرح الغائر. لذلك وبناء عليه فالمباشرة هنا كانت لدواعي نصية مهمة استجلبت التاريخي ليعول عليه فكان معمار النص الهائل وبنيته شديدة الرسوخ.
هل نحن هنا ازاء تاريخ قدم كل ما فيه لقمة سائغة تشتهي مؤلف ما همام ام نحن امام تفرد مؤلف انتقى من الاحداث ما يستطيع تقديمه في وجبة ادبية دسمة تحتفي بانجاز التاريخ بصيغة روائية مقتدرة بالطبع نحن امام عملاقين احدهما ما حدث والاخر هذه الكتابة التى جعلت ما حدث حيا نابضا وارفا يتوغل فينا ونتنفسه مليا استطاع الكاتب ان يحول احداث حرب واكثر من حرب الى كائنات تتراقص امامنا وتثير فينا الحماس دون ان يضحي بجماليات من هنا ومن هناك فكنا امام عبقرية كاتب استطاع ان ينتزع صفة التسجيلية والوثائقية من عدسته لكن دونما اخلال بطبيعة ما حدث فمزج الصعبين معا
فكنا وكاننا نشاهد فيلما من نوعية ما يسمى بالموكيودراما
هذا التسجيل الحي النابض الذي ما لبث ان مكن السارد من تبديل الحديث بضمير الهو الى الخوض مباشرة بضمير الانا الساردة المشاركة دون ان تكون تلك الانا هى البطل فالبطل هنا هو نحن جميعا ليس فقط من كانوا في المتن الروائي وانما كل من سوف يقرا هذا العمل الملحمي هذا العمل الذي استطاع ان ينسب الحق لاصحابه المنسيين فالنصر ينسب للقادة لكن الرواية نسبت النصر للعمل الجماعي لهؤلاء الجنود البسطاء الذين كرموا بلافتة جندي مجهول هذا المجهول هنا اصبح معلوما حتى وان لم يسمى باسم فالجنود كانوا بسطاء لكنهم اصبحوا عظماء اصبحوا هم القادة بالتساوى قادة لاحرار وليس لعبيد تجعلنا الرواية بالفعل نتساءل من صنع نصر اكتوبر لنلمح الاجابة بين السطور ومن خلال الحوارات هذا النصر صنيعة الكل وليس صنيعة فرد او قائد هذه الحرب ساوت في الاهمية بين اصغر غمل الى اكبر عمل بين ما هو مدني وما هو عسكري وهنا يمتاز هذا النص الادبي بتجاوزه للكتابة عن الى الكتابة ل لهؤلاء لتلك الاجيال التى لم تعش عظمة الحدث وبالكاد قرات شذرات من هنا ومن هناك لتصبح اجيالا بذواكر هشة ان اهمية هذا العمل انه جمع بين تشويق الحكاية الماخوذة من احداث واقعية وبين جدية الموقف والطرح التابع لضمير مؤلف حى ويقظ وكانه يسرد للاتي وليس فقط للحاضر .
فالحرب وان امتدت تظل جزءا والعسكري وان عاد بالانتصار لابد وان يتدرب ولا يركن لراحة واللحمة البشرية التى صنعت انتصار اكتوبر هى من هؤلاء ممن حملوا السلاح وفهموه دون ان يعبدوه ثم عادوا للارض للزراعة والصناعة والتجارة والحب وخلافه .
وكان من غير اليسير الكتابة عن حدث بعين صانعه مع الاخذ في الاعتبار الطرف الاخر لذلك اشتغل المؤلف بمقص محرر الصور المتحركة ياخذ هذا المشهد ويلصقه في ذلك المشهد يقارن بين حربين بل عدة حروب ليس فقط على مستوى الجبهة انما ايضا في الداخل المجتمعي فاذا ما وقعت عين الطرف الاخر على الحدوتة اخذ بنصاعة السرد ووضوحه وعدم انجرافه بمبالغة احاسيس جياشة تنسب نجاحا في غير موضعه وتحول اخفاقا الى انجاز لذلك فهذا العمل مرشح بقوة للترجمة الى لغة الاخر لا لنفضح خططنا العسكرية امامه بل ليوقن اننا جاهزين في اى لحظة لاى جولة اخرى قد تجرنا الظروف لملاقاته فيها .
اعتمد السرد هنا على الصور السريعة الديناميكية حتى في لحظات الهدوء الغير عسكرية فالحب مؤجل حتى وان وصف الحبيب محبوبته وتغزل فيها لذلك اقترب السرد والحوار من صفة السيناريو المعد للدراما البصرية فلقد شممنا وسمعنا ولمسنا وراينا مع السارد كل صوره التى بثها في حكايته وجعلنا نستخدم كل الممكن من حواسنا المادية.
قدمت الرواية طوبوغرافيا تفصيلية للمكان فصحيح ان الرواية ذكرت قاطن سيناء ب السيناوي لكن لم يكن ذلك للفصل العرقي بين الوادي وجزءه الاسيوي لكن لتمييزه وقت السلم فلا يخلع عنه صفاته المميزه عن الصعيدى والبحراوي لكن وقت الحرب فليس هناك ثمة تمايز فالكل مصري بل وتحققت نبوءة محمود درويش بان داخل كل عربي شئ ما مصري فالسرية الكويتية اصابها حظ التعريف بالموطن الاصلي لكنها ما لبثت ان انخرطت في مهامها شان اى سرية او كتيبة مصرية فالهم واحد والجرح واحد والمجد والفخار لابد وان يتوزع من الجزء الى الكل مثلما تجرع الكل كابة مرض الجزء .
ومن اكثر مناطق الرواية مشهدية سينمائية كان وصف السفن العابرة لقناة السويس من بعيد وكانها تمرق في الرمال وليس في الماء
لا مندوحة من كون ادب الحرب هو المؤهل بقوة ان تمتزج فيه كل المشاعر والاحاسيس التي تربكها احيانا حدة التناقض فيما بينها فلقد وجدنا هنا مشاعر الحب والكره والهزيمة والانتصار والحرب والسلام فبين اصوات دوى المدافع ودفقات البارود كان هناك وقت للمرح ولو بشكل مؤقت ومن خلال التخطيط العسكري والمراوغة والانتظار كان هناك بعض متسع للعادى واليومي كما ان بعض المشاهد التى جمعت الفريقين المتحاربين على هامش الحروب فيما بينهما كان لها اثرها في تبيان الانساني المتدفق في مقابل الاعتراك العابر.
ولقد امتلئت الرواية بالكثير من صور اللا حرب في دعوة قوية لنبذ الدمار وان الحرب اى حرب نخوضها مكرهين واننا نرفع من خلالها ظلما لا نشيع بها خرابا .
صاح الصبي الاسرائيلي
-خمسة يونيو
-رد الصبي المصري
-ستة اكتوبر
الحوار القصير المقتضب هنا بين صغار لم يشهدا الحرب لم يذق اى منهما مرارة هزيمة اباءه ولا حلاوة انتصار اباءه لكنها الرسالة واضحة انها نقش على ذاكرة الانسان القادم حتى لا ينسي سوء منقلب الهزيمة ومسئولية الحفاظ على نصر بذل فيه الاسلاف الدم والروح
وقبل الانصراف لنا ان ننوه عن امر هام وهو ادب المقاومة وبطبيعة الحال يندرج ادب الحرب تحت بند ادب المقاومة فالحرب اى حرب هى مرحلة المقاومة المسلحة اتجاه عدو او خطر ما لكن المقاومة ارحب واشمل ولا تنحصر فقط في فريق يحتل ارض الغير دون وجه حق فيحاول الفريق المحتل ان يزيح الفريق المحتلة ارضه عن ارضه وبلاده لوركا شاعر اسبانيا الكبير مثلا لم تكن بلاده تحت احتلال اجنبي لكنه كان مقاوما لفاشية الجنرال فرانكو ابن جلدته ويبدو انه اضطر الى حمل السلاح في هذه المقاومة فضلا عن اشعاره المقاومة للظلم و الطغيان والناشدة لحرية الانسان وما اقسي انواع الغربة والسجون داخل بلادك وان يكون سجانك هو مواطنك الذي يحمل نفس جنسيتك و هويتك امر اخر وهو اننا هنا ازاء حرب نظامية بين جيشين تعددت مراحلها وظروف تكوينها تخللها حرب شوارع ضيقة بين جزء من جيش العدو و عسكريين و مدنيين انخرطوا في مقاومة التسلل الاسرائيلي للضفة الغربية فيما عرف باسم الثغرة وفيما عرفت المقاومة ضده باسم حرب الاستنزاف الثانية المقاومة اذا مفهوم اكثر شمولية من مفهوم الحرب حيث يمكننا ان نقرا عمل ما عن مقاومة ما دون طلقات رصاص و كتائب مسلحة تتحرك يمينا ويسارا ومن هذا المنطلق فانه داخل كل عمل ادبي ما شئ ما من مقاومة ما حتى ولو كانت مقاومة الكاتب لظروف معينة وسعيه للتغيير نحو ما يراه الافضل دون ان يصرح بذلك صراحة.
ثالثا ختام:
لا نزعم اننا في هذه الورقة المتواضعة قد قدمنا درسا نقديا بما يليق بعظمة الرواية الشاهقة موضوع البحث ان هى الا قراءة جد محدودة حاولنا فيها جاهدين فيها الوقوف على عظمة الحدث الذي خلدته تلك الملحمة الدرية التي بين ايادينا بل اكاد اجزم انه لا حيلة لمكر نقدي ها هنا فالرواية على قدر تألقها وكدها الا انها بسيطة ناعمة متسللة الى دواخل النفوس لا تحتاج لموعظة نقدية توهم القارئ بانها تقربه من العمل وتفتح عينيه على لؤلؤها المنثور الفائض من جوانبها وان كان لنا كلمة اخيرة فالتحية واجبة للفنان مصمم الغلاف الجذاب الموحي جدا وكانه نقش فلكلوري اصاب هدف العنوان بالوان داكنة لا تخطئ سمرة الملامح المصرية الشهيرة بازياء مجردة من تفاصيل منفرة تكاد تكون تجريدية بيضاء اللون وغير عسكرية على شاكلة البزات العسكرية المعروفة وذلك تلميح جيد بانه واذا كانت الرواية تسجل حروبا عسكرية لكنها تؤكد على ان الجيش اى جيش هو جزء من نسيج الشعب ثم ادوات في الايادي تتشابه فيها اسلحة بدائية و لوازم قرع طبول وكانها رسالة واضحة بان اليد التى تحمل السلاح هى نفس اليد الممدودة بالفرح فضلا عن النزعة المرتدة للوراء الى اصل الاشياء وبداياتها وانه رغم التعقيد الصناعى والمادي في السلاح وغيره الا ان البداية دوما تكون هى الباعث والمحرك على الدوام كما ان الاصرار فيها على كون مصر بلد سلام ومحبة واستقرار ورخاء وليست باى حال بلد معتدى او كاره للحياة واخيرا الشكر كل الشكر للكاتب الكبير نافذ البصيرة والشكر موصول بطبيعة الحال لكم جميعا.
دكتور محمد يوسف