جاءتني هذه الرواية فقط لتشعرني بالسعادة،
جاءت هذه الرواية لتمنحني بريق أمل في الكتابة، وفي الحياة أيضًا ..
هناك أشياء يصدق عليها قولنا (جاية ف وقتها) بالضبط ..
لا أذكر أن عملاً أتاني في وقته مثل هذه الرواية
.
الرواية الأولى لـ سماح صادق، التي عرفتها شاعرة .. وصحفية مهتمة بالأدب،
الرواية الأولى التي أتقنت وأجادت فيها "سماح" لدرجة أني شعرت أن هناك "مسودات" عديدة لاشك سبقتها،
.
نخطئ أحيانًا حينما نعزو إعجابنا برواية ما لعدد من الأسباب المنطقية، كجودة السرد وتماسك اللغة وبراعة الوصف إلى غير ذلك من "إكلاشيهات" اعتادها النقاد، وربما اعتدنا ترديدها ورائهم، وربما أيضًا كانت حقيقية .. لكنها في الواقع ليس كل شيء!
هناك ماهو أكثر، هناك ماهو أعمق .. لعله "الصدق" مثلاً
مؤخرًا شعرت أن هناك أكثر من رواية أو عمل أدبي يفتتني فيه أكثر ما يفتتني "الصدق" ..
ربما تكون "القصة" معتادة، أو تقليدية هنا وهناك، ولكن المحك الأساسي، والعهدة كلها على "الراوي" الذي يجعلك تعيش تلك التفاصيل مهما بدا تشابهها مع حكايات أخرى، ألا تبدو لنا حكاياتنا متشابهة أحيانًا، ومصائرنا؟!
.
لننتقل إلى الموضوع مباشرة،
عن ماذا تتحدث (ترانــس كــندا)
هل هي قصة حب؟ أم تجربة أخرى من تجارب السفر والهجرة؟ أم هي مغامرة فتاة في بلاد الغرب؟
ماذا يمكن أن تقدم رواية بهذه الأفكار؟ ألا يعد ذلك كله قديمًا، وتقليديًا، و"معادًا ومكرورًا" ؟!
حسنًا إذَا ..
إذا كانت الأفكار مطروحة في الطريق في كل وقت، فإن دور الكاتب الحقيقي هو التقاط تلك الأفكار وطرحها بطريقته الخاصة والمتميزة، ويتمثلها بشكل جيد حتى يقنع القارئ بها،
وهذا ما فعلته (سماح) في "ترانس كندا"
بدءًا من الإهداء الذكي لـ (هؤلاء المغاميرين الذين لا يخشون الوحدة، ولا يخافون في حريتهم لومة لائم) تجد نفسك إزاء تلك التجربة الخاصة جدًا التي تمزج بين المغامرة والتحدي والحرية في آنٍ معًا
وهي إذ تفعل ذلك إنما "تجرب" الحياة بطريقتها الخاصة ، وفقًا لقوانين وضعتها لنفسها شريطة ألا تؤذي أحدًا .
تبدأ الرواية ب خمس حكايات قصيرة، ترسمها "سماح" بدقة شديدة وبطريقة مشهدية "سينمائية" تضعك في قلب الأحداث مباشرة، وتعرّفك فيها على "شخصيات" روايتها في (ما قبل الهجرة) لنتعرف على (يوسف، إيمان، هاني، حلا، و نهى) في لوحات قصيرة، ولكنها دالة ومعبِّرة جدًا تضعنا أمام العلاقات الغريبة والمتوترة بين هاني وديان، وبين حلا وحاتم .. وأخيرًا نهى وطاهر ..
والحقيقة أن هذه اللوحات، وقبيل انتقال سماح إلى القصة الرئيسية للرواية، تجد أنك أمام أربع حكايات قابلة تمامًا لأن تكون لكل منهم رواية منفصلة بما تحمله شخصياتها من أزمات وطبائع مختلفة استطاعت أن تعبَّر عنهم بشكل مكثف جدًا في هذه الصفحات القليلة، ولكن سماح تنتقل في (هجرة أخرى) إلى بطلتها الأثيرة (إيمان) التي اختارتها لتروي حكايتها مقسمة على فصول مقسمة لمحطات بأسماء المدن التي انتقلت فيها من "القاهرة" إلى "كندا" ..
تبدأ الرواية من النهاية، من قرار الرحيل الذي لا نعرف مبرراته ولا أسبابه، لتبدأ البطلة (إيمان) وعبر طريقة التقطيع السينمائية تعود بذكرياتها إلى الأحداث الذي سبقت هذا القرار المفاجئ والذي يبدو غريبًا، لنتعرف على حياتها كيف بدأت، وحكاية حبها إلام انتهت .. وما مرت به أثناء ذلك من مصاعب وأزمات،
.
وهنا أود أن أشير إلى أن "العمدة" أو الأساس في القصة كلها والحكاية نفسها ليس غرابتها ولا اختلافها عن مثيلاتها، وإنما في "تفاصيل" الحياة التي تضفيها الكاتبة على القصة لتجعلك جزءًا منها، تتماهى مع بطلتها تمامًا وتعيش معها كل أحزانها وآلامها، وتفكَّر معها في أفكارها وخططها، حتى ترسو معها على تلك النهاية البديعة
((الحياة ليست مكسبًا وخسارة، الحياة ليست حاصل عملية حسابية أو مجرد نتيجة نهائية، الحياة الحقيقية هي الأسباب المؤدية للمكسب وللخسارة، هي التفاصيل الدقيقة في كل معادلة، هي أنت قبل أن تقابلي من قابلتهم في الطريق، وهي أنت بعد أن مررت بتجربتك معهم، الحياة ممتدة بامتداد وجودك أنت على هذه لأرض، وليست مرتبطة بوجود الآخرين أو رحيلهم عنك. أنت وحدك السر، والحياة هي ما تصنعينه بنفسك ))
لم يبق إذَا إلا أن نرتاح من طول هذه الرحلة ومشاقها في :
(( بيت دافئ برائحة القهوة والفانيليا، ثلاجة محلاة دائما بالشيكولاتة، مكتبة كبيرة من الكتب والأفلام تأخذك لعالم آخر كلما أردتِ، شارع يسعك، وعيون لا تحسب خطواتك. العالم كله يفتح لي ذراعيه، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمني بكل ما تطوله يده من أحجار.))
.
هكذا نجد أنفسنا في النهاية لسنا أمام قصة حب تقليدية، ولا فيلم من أفلام الرومانسية المفرطة، ولكننا إزاء "تجربة" حياة، ومساءلة للمجتمعات كلها، وليس المجتمع العربي وحده هذه المرة، فالبطلة تعيش في "كندا" ولكن يمارس عليها هناك أيضًا بعض هذه الضغوط التي تحيط بالمرأة، بل وتلاحظ وتراقب نساءً غيرها يتعرض لضغوط وتجارب غريبة مشابهة ..
رواية أتقنت كاتبتها بالفعل رسم تفاصيل بطلتها، ورسم الشخصيات الأخرى من حولها،
أعتقد أنها بتلك الرواية الأولى تضع نفسها في مصاف الروائيات العربيات بقوة،
وتجعلنا ننتظر منها الجديد .. الأجمل
.
كان مفترضًا أن أكتب عن "سلبيات" و"أخطاء" وقعت فيها "سمـاح" بما أنها روايتها الأولى، وبما أن كل تجربة قد يكون فيها بعض الثغرات، ولكنني للحق لم ألمح أي شيء!
ربما هي عين الرضا، بالتأكيـد ..
ولكني سأكون سعيدًا بأي نقد "سلبي" يرى في هذا العمل ـ أو سواه ـ أقل من أن نقرؤه أو نهتم به،
.
أحببت هذه الرواية حقًا، وسعدت بها،
فشكرًا بحجم السمــاء أيضًا .. سماح،