من البومدينية إلى البوتفليقية.. بتناوله لهذه المرحلة المفصلية من حياة المجتمع الجزائري في التاريخ و السياسة و الاقتصاد و حتى الأدب يعترف الروائي بشير مفتي انه “معقد أدبيا” من الأزمة الجزائرية التي ولدت غداة وفاة الاستعمار. و أنه لم يشف بعد على الرغم من كل ما كتبه حول هذه الحقبة. فها هو ينبش من جديد في روايته الأخيرة “دمية النار” في جذور الأزمة التي أحرقت كل الأشياء الجميلة في الفرد الجزائري و جعلته نوعان: شيطان يلهث خلف السلطة و الثراء مستبيحا دماء و أعراض و أموال الناس و مسخ همه رغيف الخبز، تحسبه ملاكا لكنه في الحقيقة ليس سوى شيطانا آخر خانته الفرصة ليكون دراكولا أشرس و أفتك.
منطلقا من تيه جيل حكم عليه بالازدواجية و هو في رحم التاريخ. فصورة بومدين تتراوح بين البطل الخرافي و المجرم الدكتاتوري “نظام محكم الإغلاق، مفتوح على شرفة للحلم و شرفة للهاوية.. صـ 32 ــ” و حكايات الثورة بين تضحيات و خيانات و رأسمالية بين رفاهية المجتمع و سيطرة عصابات تأكل الاخضر و اليابس. هكذا هي حالنا نحن الجزائريون لكل شيء عندنا وجهان و لكل حكاية لنا حقيقتان.
بلغة سردية مطعمة “أحيانا حد التخمة” بوجودية طاغية تؤكد للقارئ أن الكاتب خريج مدارس فلسفية وجودية و عقلية بامتياز.. يبدأ بطل الرواية رضا شاوش و صاحبها “كما اختار الروائي” سيرته الذاتية متكئا على علاقته المضطربة بوالده “مدير السجن” هذه الأخيرة فرضت ريتمها حتى نهاية القصة.
هذا البطل الذي جاء إسمه مناقضا لحياته المليئة بالصخب و الندم و الاختيارات الخاطئة و المشبعة بالأعداء و الأحزان و المطبات قلم يحدث ان يرضي تماما الرضى عن قراراته و مصيره و علاقاته بالآخر.
أكثر اللحظات متعة في دمية النار هي تلك المقاطع التي يتحدث فيها البطل عن علاقته بوالده. علاقة معقدة مركبة و مبهمة بين شد و جذب و بين لين و قسوة، “صغيرا شعرت بلغزية أبي… أحاول ان أعرف لماذا هو مختلف هكذا عن آباء زملائي في المدرسة، و لماذا مشاعري نحوه متناقضة أحبه و أكرهه، أخافه و أحترمه… صـ 28 ــ ”
بمعالجته لعلاقة “الإبن و الأب” مرة أخرى بعد “بخور السراب” يمكن القول أن الكاتب يستمتع بالحديث عن ثنائية الوالد – الابن كأنها تلامس حقيقته الشخصية. لا أقول بالضرورة أن علاقة الكاتب بوالده تشبه ما في القصة لكن يبدو أنه يحمل لوما بطعم الحب و الإكبار لآبيه فهو يجيد الغوص في نفسية الإبن أكثر من الأب ما يفرض على قراء بشير.م التوقف و التساؤل: ترى هل كان بشير الحقيقي هو الذي يحكي عن والده؟ و الجواب لدى الكاتب طبعا.
و لبشير.م طابعه الخاص في تناول هذه الفلتة من العلاقات البشرية فيدفعك من أول جملة للغوص في أعماق النفس المدفوعة للبوح بأدق التفاصيل كي تخفف وطاة الفقد و وحشة الوحدة. يجعلك الكاتب متعاطفا مع الاثنين. فتتدحرج بين حميمية عميقة و أخرى جافة شاهدا على تحول الأب من رجل قاس و شرس يضرب زوجته لأتفه سبب و يعامل أبناءه كالمساجين إلى رجل آخر غاية في اللطف و الحب و الحنان لكن بعد ان يصاب بالجنون. ما أحلى الجنون الذي يحيل الوحوش إلى غزلان.. لكن المؤسف ان هذا التغير جاء متأخرا ككل الأشياء الجميلة في دمية النار تأتي متأخرة: فعودة الأب لعائلته لم تعمر طويلا و زعماء مافيا البلد لا يتوبون إلا و فوهات المسدسات تلامس أنوفهم و حتى المساجين من اللصوص و المدمنين و المجرمين ما إن يمدوا أيديهم إلى السماء حتى يرمي عليهم حبال النجاة شيطان بلحية كثة و قميص أبيض قبلته رشاش و الجبل. ففي جزائر الموت و الرماد و الكفن أن تأتي متاخرا تماما كما لم تأت.
لم يندم رضا شاوش من الماضي بقدر خوفه من المستقبل و هو يرى أيام المافيا يوم لك و آخر عليك فقرر الكاتب ان يجعل الخاتمة مجهولة تماما كحال الجزائر فلا احد يدري أين نحن ذاهبون.
شخوص الرواية متطابقون و هذا تحليل نفسي جيد حسب رأيي الشخصي. فرغم الاختلاف البادي على تراكيبهم الاجتماعية و فروقاتهم التكوينية و الأسرية و حتى العاطفية، فالكل يسلك طريقا واحدة هي طريق الخلاص و هنا ينتقد الكاتب انانية المجتمع بأكمله فلا احد يفكر بالآخر و لا حتى بأفراد أسرته، فالبلد لم يهلك إلا بهلاك فكرة الكل لديه و غيابها التام في حضرة الانا. فالجلاد و الضحية هنا يتقاسمون الوجع نفسه و الخوف و الجهل بالمستقبل نفسه. بل و الشر نفسه فكل منهما مجلود لكن السوط ليس واحد. فالبطل الذي تعاطف مع ضحايا التعذيب في سجون والده معتبرا ذلك خيانة للإنسانية و للحرية الفردية لم يتوان عندما سنحت له أول فرصة في ممارسة كل الشرور من قتل و اغتصاب و ابتزاز مبررا في كل مرة أفعاله بانها قدره و ما كان له ان يعارض المكتوب.
يصر الروائي بشير مفتي على اختبار مصائر شخوص عمله هذا مبديا يأسه من “جزائري” هذا الزمن الذي فقد المقاومة في كل شيء. فأبطال الرواية يتساقطون كالدمى أمام الإغراء والمال و السلطة و الفساد متعللين بأن الفشل مآلهم حتما لو حاولوا المقاومة لكن أليس “الفشل الحقيقي هو أن يموت الإنسان دون أن يحاول صـ 39 ــ” و الملفت في العمل ككل أن الشخص الذي مارس أكبر قدر من المقاومة هي أنثى “رانية” فقد تحدت عائلتها و مجتمعها ففرت و تزوجت حبيبها متمردة على كل الاعراففهل كانت مقاومة الأنثى في العمل دليل على خذلان الرجل لهذا الوطن؟ ثم من أين استمدت رانية هذه القوة المقاومة أليس من الحب. هل يعني ان رجال الوطن فقدوا المقاومة لما افتقدوا الحب؟ ألهذا أغلب رجال العصابات التي حكى عنها الروائي ليست لهم عائلة و اطفال؟ أكان الحب دافعا لوالد رضا لان يتوب و يعتزل حياته السابقة؟ هل إصرار رضا على الشر دافعه موت الحب الوحيد داخله؟.
هذا الفشل كشفه حجم الفساد المادي و الوسخ الفكري و التعفن الروحي الذي وصلنا إليه، معلنا أن الطوفان قد انطلق منذ الأيام الأولى للاستقلال و أننا في مرحلة متقدمة من الغرق إلا أن موت الروح فينا هو الذي يمنحنا شعورا ساذجا بأننا نعيش حقا و أن بعضنا يقاوم و الآخر يأمل بالأفضل. و يبدو الزمن شبه متوقف في “دمية النار” على الرغم من امتداد القصة لأكثر من أربع عشريات ربما دلالة على انه لا شيء يتغير حقا في هذا البلد فمافيا تموت و أخرى تولد و فقراء يغتنون و أغنياء يفقرون و مع كل فقر و اغتناء هناك ضحايا يتساقطون على جانبي الزمن مؤرخين لحقبة مضت.
قتامة الرواية تحيل القارئ إلى واقعية الكاتب فنحن حقا شعب أكله اليأس و الفوضى و ضبابية الحاضر و ما بالك بالمستقبل، متحولين إلى قطعان من مصاصي الدماء بمستويات مختلفة.و قد يتهم البعض الروائي بشير مفتي بأنه متشائم و أن كل شخصياته سلبية فأقول لهم نعم إنه كذلك فهل انتم متفائلون؟ إن كان جوابكم نعم فاذكروا شيئا واحدا يجعلكم متفائلين بمستقبل هذا البلد.
/// ما بعد دمية النار ///
لم يأت الكاتب بجديد في هذا العمل بل يحق لنا أن نتساءل هل كرر بشير مفتي نفسه في دمية النار؟
من حيث البنية الروائية للعمل فبصمة الكاتب بقيت نفسها التي جاءت في أعماله السابقة خصوصا “بخور السراب و خرائط لشهوة الليل” و ميله للسرد المباشر و الكلاسيكي واضح جدا. هذا لا ينقص من قيمة العمل الفنية لكن مجرد ملاحظة فقط.
من حيث شخوص الرواية فإن الكاتب عمد كما في أعمال سابقة أيضا إلى التعمق في نفسية البطل فقط و تطويرها و إثرائها و تقديمها للقارئ كما يريد هو //قد يقول البعض بأنها سيرة و كل شيئ يجب ان يدور حوله. لكن هذا لا يمنع// متجاهلا العمل على كينونات أخرى لها تأثيرها في إخراج العمل في صورة أكثر ثراء و عمقا. شخصيات بشير .م كانها كلها ثانوية أو كومبارس تظهر فجاة فقط عندما يحتاجها البطل و تختفي بعدها مباشرة و هذا ما يحشر القارئ في خندق واحد بينما العمل على شخصيات أخرى و تطويرها و الاهتمام بتفاصيلها هي الاخرى يمنح القارئ إطلالة شاملة على العمل و تفاعلا اكبر مع الأحداث.
تحمل مرحلة ما بعد دمية النار للكاتب الشاب بشير مفتي تحديا جديدا يجعله من الشجاعة بمكان ان يجرب مدارس سردية اخرى و بنى شكلية لم نعتدها في كتاباته. و أعتقد انه سيوفق لأن براعة السرد في أعماله تمنحه مفاتيح الولوج لآفاق روائية أكثر شراسة و تجديدا و حداثة.
كتب عبد العزيز العربي
ميلة . الجزائر – 10/11/2010
عنوان العمل: دمية النار
المؤلف: بشير مفتي – الجزائر
عدد الصفحات: 165.
دار النشر: منشورات الاختلاف – الجزائر // الدار العربية للعلوم ناشرون – لبنان.
تاريخ النشر: 19/07/2010.