للثائر حياة مختلفة؛ فهو يحمل بين جنبيه قضية ينافح عنها، لا يضره إن سُلبت حياته وقيّدت حريته جراء ذلك. سمير القنطار المناضل الذي ترك مقعده في المدرسة ليقود عملية نهاريا في فلسطين، وتم اعتقاله بسببها عام 1979م، كان على موعد مع الحرية بعد ثلاثة عقود!.
الحرية، النضال، القضية الأهم (فلسطين).. مسوغات لاقتناء قصتي لسمير القنطار، هي رواية يوثق فيها الكاتب والصحافي اللبناني حسان الزين تجربة القنطار في الأسر. تتألف الرواية من أربعة عشر فصلًا، تبتدئ من مشهد الحرية في الفصل الأول ويعود القنطار بذاكرته إلى سنوات خلت ليحكي تجربة الاعتقال في بقية الفصول.
(لستُ نيرون): يتلخص هذا الفصل في وصف اللحظات الأخيرة للاعتقال، والترقب الذي عايشه القنطار لمعرفة مدى تحقق عملية التبادل (ثمن حريته) التي يقوم بها حزب الله، والأسئلة التي باتت تؤرقه أثناء متابعته للمشهد السياسي اللبناني (آلمتني شخصنة الموضوع تارةً وتسيسه تارةً أخرى, كيف يطالبون بالمفقودين والأسرى اللبنانين ويستغنون عني؟ أحياتي وحياة أي مقاوم لبناني ضد إسرائيل رخيصة إلى هذا الحد؟). وتتسارع الأحداث ليزداد الوضع المأساوي للجيش الإسرائيلي وليقترب فجر حرية القنطار شيئًا فشيئًا.
(على شاطئ نهاريا): على ضفاف الشاطئ كان ميلاد ثنائية الاعتقال/الحرية، يصف القنطار اللحظات المفصلية (ذاهب إلى فلسطين، كلما فكرت بهذا تتسارع دقات قلبي وأبتسم كأنني أمام كاميرا أقرأ وصيتي!)
العملية التي لم تنتهِ وفق المخطط المرسوم، إلا أنها كانت صفعة في جبين جيش الاحتلال، نتج عنها مقتل عدد من الإسرائيليين، وزعزعة الأمن المزعوم، والنهاية أسر القنطار والتحليق به معتقلًا في سماء فلسطين!.
(هدية في رئتي): لحظات ما بعد الاعتقال لم تخلُ من المفاجآت، ابتداءً من مكان الاعتقال الغامض, مرورًا بالهدية التي أفصح عنها الطبيب: (تركتُ الرصاصة في مكانها ذكرى من الإسرائيليين، في الرئة قرب القلب)، وانتهاءً بجولات التعذيب المستمرة، في محاولة لإقرار سمير القنطار بقتل طفلة كانت نهايتها برصاص أبناء جلدتها.
(دولة إسرائيل ضد سمير القنطار): تتصاعد وتيرة الأحداث وردود الأفعال إزاء مقتل الطفلة.. يستغرب الإسرائيليون كيف يقرّ القنطار بمقتل غيرها ويرفض أن يزيد عدد ضحاياه، فكان الجواب: (جئنا لنقتل عسكريين ونعرف أنه في نهاريا الكثير منهم, إمكانياتنا محدودة. لا يمكننا أن نستهدف العسكريين من دون إصابة المدنيين، بينما أنتم يمكنكم كذلك ولا تفعلون!). لحظات صموده في المحاكمة تتجلى بعبارته: (الشعب الفلسطيني يحاول أن يستعيد حقه ووطنه, وأنا كمواطن عربي قضيتي المركزية هي فلسطين، وجدت من واجبي أن أقوم بهذه العملية).
وكان الحكم التعسفي: سمير القنطار خمسة مؤبدات!
(زوندا وشهيدان): مع بداية تنظيم لجان الأسرى تم استخدام السلاح الأهم (الإضراب) بشكل مكثف. يصف القنطار مدى أهميته: (يضرب عن الطعام من لا سلاح لديه إلا جسده. الطعام ليس سلاحًا إلا في يد السجّان والظالم. وحين يرفضه الأسير يقول: إن هناك شيئًا أهم)، (الرهان على الإرادة لا على قدرة الجسد). وتسامت الإرادة إلى حد استخدام إدارة السجون الزوندا "أنابيب مطاطية لسكب الحليب في أفواه الأسرى". وحدهم الأسرى من لا يملكون حق الاختيار!.
(العصافير وبيروت): حتى الطيور في الأسر تكتسب مرادفات مشوّهة، كأنما تستعير من السجّان قسوته. العصافير وصف للعملاء الذين يتعاونون مع قوات الاحتلال، عادة يتم استخدامهم مع الأسرى الجدد في محاولة حثيثة لسحب معلوماتهم واعترافاتهم.
(التبادل القاسي): وحدهم من تاقت أنفسهم للحرية يتناسب مخزون الأمل لديهم طرديًا مع الاستبداد الواقع عليهم، عملية تبادل قادمة والكل يمنّي نفسه بالحرية، الصدمة الكبرى كانت خلوَّ القائمة من الأسماء المتوقعة لأسرى أمضوْا سنوات عدة، واستبدالهم بأسماء من تنظيمات محددة، حتى السجن لا يخلو من المحسوبيات!
(الهروب): "يجب أن أخرج من هنا"، عبارة تكررت في رأس القنطار كثيرًا، لكن إيثار ما قبل الفرار نحَى بالعملية منحًى آخر، القنطار الذي منح فرصة الحرية الأولى لزميله كأنه كان يُعرف بمآل المحاولة، خطأ في وجهة الفاريّن يعود بهم من حيث هربوا، ولكنها الحرية تُبذل شتى المحاولات لنيلها.
(مشروع جبر): المشاريع التي تنبثق من وحي الأسر لا تنتهي، تزامنت أحداث حرب الخليج الثانية مع أفكار خيالية.. اختطاف رهائن، والتوجه إلى مصر، وغيرها من الأفكار، سرعان ما تتلاشى، ويبقى لا شيء لدى الأسير ليخسره. بقية من أفكار وأماني يبثها لمن حوله صبحًا وعشيًا كفيلة بإمداده بجرعات من الحياة التي حُرم منها.
(الجامعة في زنزانتي): حتى حينما حلم القنطار بإتمام دراسته الجامعية كانت رقابة السجّان بالمرصاد, يتحدث عن أجوبتهم التطمينية بعد كل تفتيش لصناديق الجامعة التي ترده.. (لم يمحُ جوابه إحساسي بأن هذه المساحة الخاصة الصغيرة من حياتي مخترقة من الآخرين ومراقبة. عوّدت نفسي العيشَ مع آخرين في حياة مفتوحة تحت المجهر, ولا مكان فيها للخاص. الخاص هو أن تختار وتفعل بملء إرادتك، وتشعر بلذة ما تقوم به, بمعزل عمّا إن كان سريًّا أم لا).
(بيغن والشيطان): يناضل القنطار وينال الشهادة الجامعية، ولكن الفرحة لم تكتمل. يصف هذه اللحظة: (شعرتُ حين تسلمتُ هذه الأوراق بأنني في تناقض. فمن جهة فرحتُ لتحقيق حلم والدي ومقاومتي استراتيجية موشي دايان في إخراج الأسرى عالة على مجتمعاتهم, ومن جهة أخرى أمسك شهادة رسمية من دولة لا أعترف بها!). وبالتزامن يعلو التهديد من قبل السياسيين الإسرائيليين ممثلًا في بيغن: "سوف تنتقم إسرائيل من سمير القنطار انتقامًا يعجز عن إبداعه الشيطان".
(وحيدًا بين إخوتي): للأحزاب امتداد في السجن؛ حماس.. فتح.. الجهاد.. حزب الله، والخلاف على الساحة السياسية يلقي بظلاله على أتباع التنظيمات من الأسرى، ومهما تعاظم الاختلاف يوّحدهم الهدف الأسمى؛ الجهاد لأجل فلسطين، والشغف بالحرية. والأسير ليس بمعزل عن ما يحدث خارج أسوار السجن، أحداث الحادي عشر من سبتمبر ابتهج بها الأسرى على حد قول القنطار، ولكن سرعان ما أدركوا مخاطرها على العرب والفلسطينيين خصوصًا, حيث فتح هذا الحدث للإسرائيليين فرص قمع الانتفاضة.
(هيهات منّا الذلة): التعسف الذي كان يطال السجناء وأهاليهم من قبل إدارة السجون يصحبه نضال وتمرد على طريقة الأسرى الخاصة. تهديد الأسرى بحرمانهم من كل ما يربطهم بالحياة لم يعد أمرًا مجديًا، فلا شيء لدى السجّان يساوم به الأسير أغلى من فرصة للعيش الكريم، ويعلم يقينًا أنها ليست بحوزته.
(عدتُ لأعود): في الوقت الذي كان فيه حزب الله يحضر لعملية أسر يحرز من خلالها صفقة تبادل، يتابع القنطار أحداث العملية عن بعد. تخنقه الأصوات التي علقت سبب الحرب بقضيته يحاول جاهدًا أن يصل صدى صوته لهم: (هل تعرف أن الأوطان لا تُبنى بترك حقوقها وأبنائها في سجون الأعداء؟ هل تعرف أن التخلي عن الأبناء يعني الهزيمة أمام الأعداء؟ ويعني عدم احترام المواطن؟). وحتى عندما لاحت بوادر الحرية لم يترك القنطار عمله في لجنة الأسرى، بل أشرف على انتقال المهام حتى لحظات ما قبل الحرية، لم يكن خروجه اعتياديًا، بدءًا من اللباس العسكري الذي ارتداه في إشارة منه إلى استمراره في النضال، وانتهاءً بالكلمة التي ألقاها وسط الحشود التي اجتمعت في لبنان للترحيب به, يومها اكتفى بـ (صدقوني لم أعد إلى هنا إلاّ لأعود إلى فلسطين، عدت لأعود).