وكأنها الرسالة التي لم تصل أبدا ولا حتى إليّ...فآتون من الإقصاء أجده فاغرا فاه على الدوام فيّ ...يلقف كل مختلف عني فكراً بنهم ، إلا الذين أحبهم فلهم فيه فقط غمسة بين الحين والحين...حتى سنين العمر ظننتها كفيلة بردمه غير أنها مهما زادت لا تهبني سوى حنكة الإخفاء ...فيظل يخيفني يقيني بأن لمهارات الإدعاء مهما نجحت في القلب أثرالتجاعيد ..هذا وقد أكد درويش ذات مرةٍ أيضا بأن : ((القلب يصدأ كالحديد))....وإني والله لست أحيد بحديثي هذا عن نص (فولتير) شيئاً...فما دفعه إلى تدوين رسالته هذه إلا مقابرامتلأت بها الأرض لا لشئ إلا انتصارا لسطوة التعصب و الرفض...وما دفعني لبثّ شكواي تلك إلا مخافتي أن أكون قد حرثت بذات الرفض في نفسي مقبرة ...فلمن أضاع بهذه السطور الغير موضوعية وقتاً ، منا الأسف وإليك المعذرة.
للأسف أساء السيد (هنرييت عبودي) المترجم من حيث أراد الإحسان، فالإمعان بكتابة نبذة عن الأعلام المذكورة بالهوامش من قساوسة أوائل ورهبان ، ثم الانتقال من ذلك إلى سرد إسرائيليات عدة لأسفار التوراة و عديدة لنسخ الأناجيل ، هذا فضلا عن بيان ما تعنيه أسماء الطوائف المسيحية المتباينة من فروق ومعان، لم يضف إلى الكتاب بهوامشه السمينة تلك سوى صفة (ممل بامتياز)، فمن بعد الفصلين الأوليين كنت أدفع نفسي لإنهاءه كعربةٍ أوهنها الصدأ، ولو أن لي قوة على وسواسٍ يزعجني عند التوقف عن إكمال أي فعل به أبتدأ، لكنت تركته قرابة الأسبوع من الآن، ولكني على الأقل أتفهم بهذه اللحظة ما وجدته غريبا في بادئ الأمر حين افتتح المترجم أولى عباراته في الكتاب ليقول بصرامة : ((لم تكن ترجمة هذا النص عن الفرنسية بالهينّة!!)) ...لأجدني أبتسم بخزيّ : قد تعب الرجل رغم الملل فلنظهر له شيئا من الامتنان.
كان مصرع (جان كالاس) البروتستانتي الصالح وتشريد زوجته وأولاده وبناته بأمر من القضاء الفرنسيّ هو الدافع الأول لفولتير- وهو (الكاثوليكي الملتزم) كما يصف نفسه- لتدوين هذه الرسالة، فلقد قُتل الرجل مُعذّبا بتكسير عظامه على دولاب الإعدام، لاتهامه بقتل ابنه الأكبر (مارك أنطوان) و الذي ُوجد بإحدى الليالي منتحرا شنقا بإحدى الغرف ، فكان دليل القضاء ومجتمع مقاطعة (تولورز) ذات الأكثرية الكاثوليكية آنذاك لإدانة الأب البرئ هو فقط ما عُرف عن أن ابنه كان قد تحول إلى (الكاثوليكية)!! ويمكنك اختصار فداحة المعاناة وقساوة التنكيل التي لاقتها هذه الأسرة أجمع بما فيها خادمة ومربية كاثوليكية مخلصة، عند قول فولتيرواصفاً مدينة (تولورز) : ((وتحتفل هذه المدينة كل عام في موكب مهيب تتخلله الألعاب النارية ، بذكرى مجزرة اقترفها سكانها قبل قرنين من الزمن وذهب ضحيتها أربعة ألآف (هرطوقي/بروتستانتي)، وبالرغم من صدور ستة قرارات عن مجلس المدينة بحظر هذا العيد البشع ، فإن أهلها لا يزالون يحتفلون به على غرار مهرجانات الزهور!!)).
هل عليّ أن أقول هنا بأن العديد من المشاهد التي وقعت بتلك القرون الغابرة ستجد لها ألف مثيل بأيامنا المعاصرة، كل ما عليك فعله أن تستبدل التواريخ والأسماء، لك مثلا حين تم نقض حكم محكمة تولورز وبيان بطلانه من قِبل محكمة فرنسا العليا ...فيحكي عن ذلك فولتير ويقول: (( إن عدد من الأشخاص ممن يعرفون في فرنسا باسم (الورعاء) رفعوا عقيرتهم ليعلنوا أن إعدام بروتستانتي طاعن في السن وإن كان بريئا ، أفضل من حمل ثمانية قضاة على الإقرار بأنهم أخطأوا الحكم، بل إنهم عمدوا إلى استخدام هذه العبارة : (( إن عدد القضاة أكبر من عدد أفراد أسرة كالاس!!!)) ، ليستخلصوا منها أنه يتعين التضحية بأسرة كالاس في سبيل إنقاذ شرف القضاة ، ولم يدرِ في خلد هؤلاء الأشخاص أن شرف القضاة يكمن مثلهم مثل بقية البشر في استدراك خطأهم))
سرد فولتير العديد من المذابح التي اقترفتها جماعات وروابط وأخويات متطرفة باسم الدين في أماكن مختلفة من أوروبا ثم ساق قبالتها نماذج لحلمه الذي أراد أن يراه بفرنسا آنذاك فقال منها : (( لقد كان اليابانيون أكثر الناس تسامحا فقد تعايشت اثنتاعشر ديانة بأمان في إمبراطوريتهم ، وقد جاء الأباء اليسوعيون ليضيفوا إليها الديانة الثالثة عشرة، بيد أن هؤلاء اليسوعيون سرعان ما جهروا برفض بقية الأديان ، فتسببوا في نشوب حرب أهلية لا تقل بشاعة عن تلك التي فجرتها الرابطة الكاثوليكية، فعمّ الدمار والخراب ومُحق الدين المسيحي من الوجود في حمام من الدم، وقد أغلق اليابانيون إمبراطوريتهم في وجه بقية العالم، وباتوا ينظرون إلينا وكأننا وحوش كاسرة، شبيهة بتلك التي قضى عليها الإنجليز وطهروا جزيرتهم منها، وعندما أدرك الوزير كوليير ما بنا من حاجة إلى اليابانيين الذين هم ليسوا بحاجة إلينا حاول عقد علاقات تجارية مع امبراطوريتهم ، ولكن عبثا فقد واجهوه برفض صلب لا رجوع عنه ، العالم بأسره يقطع لنا الدليل إذن ، على أنه لا جدوى من ممارسة التعصب ولا حتى من الدعوة إليه))
وعن مبدأه في التسامح الكوني يقول ببساطة حلوة..أتمنى لو كنت أجد قناعتها صدقا في : (( لم أكن بحاجة إلى حذق كبير أو بلاغة متكلفة كيما أثبت أن على المسيحين أن يكونوا متسامحين فيما بينهم، غيرأني سأذهب إلى أبعد من ذلك فأدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا إخوة لكم، ماذا؟؟؟ قد تجيبون، أيكون التركي المسلم شقيقي ؟ والصيني واليهودي والسيامي؟؟ ، أجل بلا ريب، أفلسنا جميعا أبناء أب واحد ومخلوقات إله واحد؟؟ ، وقد يقول قائلكم: ولكن هذه الشعوب تحتقرنا، وتعتبرنا من عبدة الأوثان!! حسنا سوف أقول لها إنها مخطئة، وأعتقد أني قد أربك على الأقل هذا الإمام الأكبر أو ذاك الراهب البوذي المتعجرف ، إذا ما خاطبتهما على النحو التالي : هذه الكرة الأرضية الصغيرة ليست أكثر من نقطة دائرة في الفضاء ، على غرار كرات أخرى عديدة ، ونحن ضائعون داخل هذا الكون الشاسع اللامتناهي الأبعاد ، إن الإنسان ، هذا الذي لا يتجاوز طوله خمس أقدام لا يمثل شيئا يُذكر في هذه الخليقة ، لنتخيل واحدا من تلك الكائنات التي لا تُرى وهو يصارح جيرانه في شبه الجزيرة العربية أو في كافريريا بأفريقيا قائلا : أصغوا إليّ فقد هداني رب العالمين ، هنالك تسعمئة مليون نملة صغير على شاكلتنا على وجه الأرض ، ولكن منملتي وحدها ستحظى بالسعادة ، أما المنملات الأخرى فستكون ملعونة إلى أبد الآبدين)) هنا سيقاطعني الإمام أو الراهب البوذي ليسألني : أي مجنون قد تفوه بهذه الحماقة ، وسأجد نفسي مضطرا إلى الإجابة : (أنتما الإثنان) ، وسأحاول فيما بعد مراضتهما غير أن مهمتي لن تكون سهلة!!))
أدرك جيداً أنك قرأت مثل ذلك ولعله أفضل في غيرما موضع، ولكن ظني أنك إن ذكّرت نفسك بين الفينة والآخرى أن هذه الرسالة قد كُتبت بمطلع القرن الثامن عشر وتحديدا بعام 1763 ..فلن تجد في نفسك إلا إحدى الأمرين أو كلاهما ...إما احترام لما كان عليه حالهم فكرا وما إليه صار، أو رثاء لحالنا الذي لم يكن يوما مثله فلم يصير.