رغم كل هذا العبث، إلا أن هناك مغزى.
الانتظار- مثله مثل الرجاء- ملعون. فكلاهما يستعبدان، كلاهما يلغيان وجود اللحظة الآنية- الشيء الوحيد الحقيقي في وجودنا. المسرحية كلها عبثية؛ الشخصيات- الحوار- الزمان والمكان، كان الانتظار هو الحقيقة الوحيدة في وجودهما، كان ذلك قاسيًا، أن يكون وجودهما مبنيًّا فقط على انتظار آخر، هما ملغيّان تمامًا. أعتقد أني لو أتيح لي اختيار قوة ما، لما ترددت في اختيار قوة إلغاء الرجاء والانتظار واستحضار الماضي، كلها أفعال منهِكة لاغية للوجود. لكن رغم ذلك أعتقد أنه أصبح لديّ مؤخرًا شيء من هذه القوى، في لفظ أي شيء أو علاقة ما تتوهم فيّ رغبة الانتظار أو الرجاء. لا أترك لهذه العلاقة مساحة تتوهم فيّ هذا الضعف، أبصقها تماما كما بصقة استراجون هنا. في الانتظار لا يفلت أي فعل أو شعور يتم في أثناءه من وطأته الثقيلة، حتى استراجون وفلاديمير حين يشعران فجأة بالسعادة، كان هناك شيء خفيّ يمنع مصداقية هذه السعادة، شيء طاغي ساخر من وجودها، لأن وجود الانتظار ينكأ أي وجود غيره. فعلى أي شيء أن ينتظر معنا، فنحن- ذواتنا إن شئنا الدقة- لا ننتظر وحدنا؛ سعادتنا، آمالنا، طموحاتنا، كل شيء يتعلق بوجودنا لن ينطلق إلى رحابة الحياة الحقيقية حتى نخلّص أنفسنا منه، نحن من نقرر لا غيرنا.. بانتهاء انتظارنا.
طيلة قراءتي للمسرحية كنت أستشعر هذه الغلالة الكئيبة ذي السطوة طالما أن هناك انتظار لا ينتهي.. حالة شبيهة بأن تكون مجبورًا أن تسمع الصوت الساذج لتنقيط الصنبور في صمت الليل، فيعجزك أن تفكّر في أشياء أكثر أهمية.
كل عناصر المسرحية اشتركت في بث هذا الشعور القاسي بالانتظار، الجاثم على النفس بلا رحمة؛
- بدءًا من المكان البسيط الذي يصعب أن يكون محل إقامة، إنما هو عراء ليس فيه سوى شجرة وطريق، أقسى ما يستطيعه أن يستضيف انتظارًا عابرًا، لا بهذه الأبدية، لكنهما اتخذاه محلًا مستديما في انتظار جودو.
- تتابع الزمن والعجز عن تحديده هل هو شروق أو غروب، كان له أثر يشبه أثر عبثية المكان.
- اختيار بيكيت شخصية الصبي بالذات لتوصيل رسالة السيد جودو لهما بتأجيل الموعد، أضفت على الموقف نوعًا من البراءة والمصداقية، والطفل كان مرتبكًا خائفًا صادقًا، ليس متبجحًا مثلًا، كان مُسالمًا ، فوضعهم ذلك أمام موقف جبري آخر لمزيد من الانتظار، فالرسالة تحمل صدقًا وأملًا في الحضور، يحتاج رفضها إلى قوة إرادة وقدرة على اتخاذ قرار، لا يملكانهما.
- حضور بوزو ولاكي يضعهما- استراجون وفلاديمير- موضع مقارنة مع مصير لاكي، ذلك المستعبَد من قبل سيده، لا يملك مصيره ولا يملك رفضًا لأوامر سيده الإذلالية الغير إنسانية. ربما وضع المقارنة هذه بين وضع استراجون وفلاديمير من ناحية ولاكي من ناحية أخرى، جعلت مصائرهم متشابهة إلى الحد الذي يجعل استراجون يسأل بوزو إن كان هو جودو! هذا التشابه ذكرني بلقاء توماس- في رواية "كائن لا تحتمل خفته"- بابنه بعد غياب طويل واكتشاف التشابهات بينهما، الأمر الذي جعله يرتعب من فكرة أن يرى نفسه أمامه. هذا النوع من المقارنات يجعلنا نعيد الكثير من الحسابات بشأن حياتنا وطريقتنا، رغم ذلك فإن فلاديمير واستراجون يستمتعان بإذلال لاكي بعد استئذان بوزو، فكانت تلك طريقتهما (صورتهما في مرآة لاكي) في التعامل مع مصيريهما، بإذلال نفسيهما بمزيد من الانتظار.
- عدم خوضهم في سبب تأخر جودو وإخلافه لمواعيده، أو اتهامه أو على الأقل لومه أضفى على انتظارهم شيء من الجبرية، والعجز عن تحديد المصير- الشيء الأكثر قسوة وكآبة في المسرحية.
عند بيكيت الانتظار غاية.. فقط لو يأتي جودو!