رواية كاشفة، صادمة، ملهمة، مؤلمة، مرعبة، رائعة.
فصولها القصيرة كانت أشبه بطلقات الرصاص التي إنهالت على روحي من أول صفحة لآخر صفحة.. بلا كلمة واحدة زائدة عن الحاجة.. برسم شديد التعبير والإيجاز لتفاصيل جميع شخصياتها المشوهة.. حتى كدت أشم روائحهم النتنة عبر صفحات الكتاب..أحس بهم.. أتألم معهم.. أتفهمهم.. وأكرههم.
الجدة العجوز الكريهة.. أحد أسوأ النماذج الأدبية التي قابلتها بين ضفتي كتاب في حياتي.. بكراهيتها لابنتها وأحفادها وزوجها ونفسها.. والتوأمان اللذان ألقي بهما قدرهما في بيتها بعدما إضطرت أمهما لتركهما هناك حتى تنتهي الحرب ويرجع الأب من الجبهة.. والنماذج المشوهة الشاذة المحيطة بهما في كل مكان.. من إبنة الجارة للضابط المستأجر لخوري الكنيسة وخادمته وغيرهم.. والذين لا يمكن أن تعزوا فسادهم وإنحرافهم للحرب وحدها وإن كان عليها عامل مهم.. عامل مخرب.
هذه ليست رواية عن الحرب في الأساس، الحرب هنا خلفية للأحداث ومحرك لها، يمكن إستبدالها بأي ظرف آخر يؤدي لنفس النتيجة، أطفال بدون أي رعاية أسرية أو توجيه، محاطين ببيئة شديدة الفساد، ليس لديهما سوى إختيارين : أن يكونا ذئابا أو تأكلهما الذئاب، فيتعلمان كيف يصيرا ذئابا، رغما عنهما في البداية، ثم تعجبهما اللعبة ويتقناها فيتوحشان، ثم تصير أسلوب حياة لا يمكنها الإستغناء عنه، حتى لو توفر البديل متمثلا في عودة الأم، لم يعد بإمكان الذئبين أن يعودا داجنين، أن يعودا لحياة الدراسة والأسرة والأوامر والنواهي، ولم يعودا يشتاقان للحب والدفء اللذان تعلما الاستغناء عنهما، لقد تشوها وفسدت روحيهما للأبد ولم تعد هناك إمكانية للإصلاح، فقد عبرا الخط الفاصل وذاقا اللحم البشري ولم يعد بإمكانهما الرجوع ولم يعد هنالك ما يخسرانه.
إستبدل الحرب بأطفال الشوارع مثلا ولن تجد هناك فرق، نفس الظروف تؤدي لنفس النتائج: غياب الأسرة، غياب الوازع الديني، نماذج مشوهة، بيئة متوحشة..
يبقى الاستعداد الذاتي: فإما أن يتوحش أو يتم إفتراسه.. إلا من رحم ربي.
يأتي ختام الرواية - خمسها الأخير تحديدا - ليتركني فاغرا فاهي محدقا في الفراغ غير مصدق لما قرأت.. إكتمال التحول.. لقد شاهدت عملية خلق الوحش كاملة.. وهاهي النتيجة النهائية كأبشع ما يكون.
اللعنة على هذه الرواية.. اللعنة على جمالها.. اللعنة على واقعيتها.. اللعنة على خيالها.
هذه أكثر رواية أثرت في وأعجبتني وآلمتني منذ فترة بعيدة، وهذه الكاتبة عبقرية شديدة التمكن أتمنى أن أقرأ لها ثانية.