قرأت ذات يوم جملة مفادها "أنك إن أردت ألا تكره العقاد فابتعد عن شعره .."
وحينها عزمت أن أقرأ له شعرا فى ديوان كامل وليس مقتطفات من أبياته ولم يكن خلف إصرارى أى نية لأن أكرهه بالطبع ..بل كان تحديا خالجنى لأن أكسر هذه الجملة إلى شطرين مختلفين لتصبح إن أردت أن تهيم بالعقاد حبا فوق حبه فلتراه شاعرا ..وقد فعلتها فهذا أول ديوان شعرى أقرأة للعقاد وقد عهدته كاتبا ,محللا, ناقدا وحتى روائيا ولكن تلك تجربتى الأولى التى أقرأ له فيها كتاب شعرى كامل من الغلاف للغلاف بيد أننى فى صغرى وهبنى أبى بعضا من أبيات له تتحدث عن حال البشر فى هذه الدنيا وكانت تقول
" صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا
وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا
ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا
وذو الأولاد مهمومٌ .. وطالبهم قد انفطرا
ومن فقد الجمال شكي .. وقد يشكو الذي بُهِرا
ويشقى المرء منهزما .. ولا يرتاح منتصرا
ويبغى المجد في لهفٍ .. فإن يظفر به فترا
شُكاةٌ مالها حَكَمٌ .. سوى الخصمين إن حضرا
فهل حاروا مع الأقدار .. أم هم حيروا القدرا "
ولشد ما أعجبتنى لأنها تلخص وبشكل بليغ -كعادته -حال البشر والدنيا فى آن واحد حفظتها عن ظهر قلب وشددت عليها بكل ما أوتيت من عُرَى الذاكرة كى لاأنساها إلى أن قابلنى هذا الديوان "أعاصير مغرب" أنهيته فى أقل من يومين ولولا الوقت الذى لا يسعفنى كالعادة لكنت قرأته دفعة واحدة بلا توقف ..
وعندما تتحدث عن العقاد شاعرا لن تجده مثل قرنائه الشعراء بل إنه يختلف كثيرا فأنت معه تنسى جذالة الألفاظ وجرسها الموسيقى وبيانها البليغ لتغوص فى الفكرة من ورائها والمبدأ التى تعلنه ثم لاتلبث فى ذات الوقت تأتى بالعكس تماما، فتنسى الفكرة وحديثك معها شدا وجذبا لتصغى للجرس الموسيقى وللعبارات الرخيمة المتقنة والكلمات المنتقاه..
وأنت فى خضم ذلك تجتازك الأفكار واحدة تلو الأخرى وتعبرك إلى حيث تستقر فى الذاكرة فدائما كلمات العقاد صعب أن تنسى .
وهذا الديوان يفتتحه كاتبه على مقالة تعد استهلالا من روائعه كالعادة يتحدث عن الشعراء وأحوالهم ويجادل فى نظمهم لشعر الغزل وهم يدنون من أرذل العمر فيدافع عن وجهة النظر القائلة بأن الحب شىء والغزل شيئا آخر لا يقتضى عمرا ..ويبدأ العقاد فيما بعد بأول أبياته الشعرية وهكذا يأتيك الواحد تلو الآخر فى نسق متقن وربما لأن الديوان أعاصير مغرب فسترى العقاد يتحدث كثيرا عن خمسينيته التى تجاوزها ليرى بها غروبا لشمسه وأما الأعاصير فهى حالاته المتواترة فى قصائدة المتنوعة فى هذا الديوان فتارة يرتفع لأعلى وتارة ينخفض لأسفل
ولكن بين يدى الشاعر فى هذا الكتاب يوجد ثمة روح جديدة تتنفس بالحياة و تتجسد فى غالبية القصائد كقصة حب تهديه دروبا جديدة تارة وتدخله عوالم لم يألفها تارة أخرى ويظل متأرجحا بين حق مشروع فى الحب و عقدا خامسا يطالبه بمزيد من الحكمة .وهكذا تمر بنا أبيات شعرية تلو الآخرى تتجسد بها نشوة الحب وسحره فى مبتداه وأخرى يحتد بها جدال بين مايردده العقل وما يرغبه الوجدان وبين حبيبة فى نهاية المطاف خانت فهانت فرحمت الشاعر من عناؤه وشعوره بشقاء فقدها وتسلمنا القصائد لأخرى تختلف فى الموضوع فنجد حِكَم متناثرة كالدرر يهديها لقارىء الديوان بغير إهداء . ويأتى الختام بقصيدة رثائية لكلبه الوفى "بيجو" .
وللإيضاح فإن الديوان لايخلو من بعض القصائد التى كتبها الشاعر فى مناسبات متنوعة تتباين فى موضعها مابين رثائية وأخرى غرضها الثناء وربما الإطراء كالتى قالها فى ملك مصر حينها "فاروق" .ولم تنل هذه المجموعة أذنا مرهفة ولا قلبا مطرق منى .فلم أحبها بل تجاوزت بعضها بعد عدد ضئيل من الأبيات .
فى الختام يمكننى القول بأننى مندهشة ونالى عظيم الإنبهار الممزوج بالتقدير والإحترام- وهذا ما أتمناه بعد كل كتاب تطاله يداى-لأستاذى الدائم "العقاد" ولنقل أيضا أننى ربحت التحدى المزعوم منى :) وإن لى لموعدا- إن قدر القدير- لن أخلفه مع العقاد الشاعر من اليوم فصاعدا فله مذاق آخر لن ينعم به إلا من أسعده حظه .
وقد رأيت أن أختتم قولى بقوله فاخترت لكم هدية من بعض ما حوى الكتاب
-لا أوثر القمراء فى حسنها على الدجى ..والطرف فيه يحوم
سناك يابدر يرينى الثرى.. وظلمة الليل ترينى النجوم
-هذا هو التاريخ من جانب القبر.. لسان بدا يكذب ماشاء ولا يستحى
هذا هو التاريخ لو أننى.. صورته يوما على المسرح .
-يا كتبى أشكوا و لا أغضب ..ما أنت من يسمع أو يعتب
يا كتبى أورثتنى حسرة ..هيهات لاتُنسى ولا تذهب
يا كتبى ألبست جلدى الضنى ..لم يغن عنى جلدك المذهب
ينتفع المرء بما يقتنى.. وأنت لاجدوى ولا مأرب
إلا الأحاديث وإلا المنى ..وخبرة صاحبها متعب
إلا انه قابل الأبيات السالفة بأخرى كرد عليها وفيها قال
-شكوتها والعمر فى فجره ..فكيف بى لما دنا المغرب
لما دنا المغرب صالحتها ..تلك التى تُشْكى ولا تغضب
غدا سنمسى كلنا مالنا فى العيش إلا رَفُّك المترِبُ
فليت لى إذ أنا تحت الثرى ..جمجمة ثرثارة تخطب
رهطا من القراء يرضوننى ..رضاى عن بلواك إذ أغضب
يا كتبى ماشئت فلتحسبى ..أو شاء قرائى فليحسبوا ..
ويالها من جمجمة تخطب ياعقاد ..إنها تعلم يا أستاذى ..