هذا الكتاب أحد كتب المسيري المتميزة .
سأقتبس لكم بعض المقاطع ..
"" وحتى أوضح هذه الفكرة سأضرب مثلا": تذهب الرؤية التوحيدية إلى أن الله رحيم مفارق, منفصل عن هذا العالم, متصل به . خلقه, ولكن لم يهجره, بل يرعاه ويمنحه الهدف و الغاية و الغرض . من يؤمن بمثل هذه الرؤية يؤمن بوجود عدل في الأرض, وأن العالم له معنى, وتحكمه قوانين وسنن . وينعكس هذا على الموقف من اللغة, إذ إن مثل هذا الإنسان سيرى أن اللغة هي الأخرى تشكل نظاما" تحكمه قوانين ثابتة, ولذا يمكن التواصل من خلالها . كما سيتجلى هذا الموقف في الصور المجازية الإدراكية . فالصور المجازية الآلية لا يمكن أن تعبر عن الرؤية التوحيدية, لأنها تفترض الكون مثل الآلة التي تدور بلا هدف و لا غاية . و الصور المجازية العضوية ( العالم كنبات أو حيوان ) تصبح هي الأخرى مستحيلة, لأنها ترى العالم باعتباره كلا متماسكا"مُصمتا" لا تتخلله مسافات أو ثغرات, فهو مكتف بذاته ومرجعية ذاته .
وتذهب الرؤية الحلولية للإله إلى أنه يحل في مخلوقاته, ويلتصق بها, ويتوحد معها, إلى أن يصبح مثلها خاضعا"لقوانين الطبيعة / المادة ( أي أن (( الإله قد مات )) حسب تعبير نيتشه ) . هذا يعني أن العدل لا يمكن أن يوجد في الأرض, بل ستسود رؤية داروينية تذهب إلى أن أي مفاهيم أخلاقية إن هي إلا مؤامرة الضعفاء على الأقوياء, وأنه لا يوجد قانون في الأرض وإنما يوجد صراع . فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان , و القيمة الأسمى هي البقاء, وآلية حسم الصراع هي القوة . و اللغة بالتالي تصبح تعبيرا" عن موازين القوى لا أداة للتواصل , و دلالة الكلمات يفرضها القوي في عالم لا معنى له ولا غاية, تسيطر عليه في الوقت نفسه القوانين الطبيعية الحتمية . كما أن الصور المجازية و العضوية الإدراكية مناسبة تماما" للتعبير عن رؤية للكون تراه باعتباره خاضعا" تماما" لقوانين الطبيعة المضطردة, لا تتخلله مسافات أو ثغرات .
ثمة ترابط إذا " بين اللغوي و الديني و النفسي, بل ثمة ترابط بين كل مجالات النشاط الإنساني, وقد حان الوقت أن ندرك هذا الترابط و أن ندرس الظواهر التي من حولنا في ترابطها و تشابكها و تركيبيتها, و ألا نسقط في التفسيرات الأحادية ( (( الواقع إن هو إلا كذا )) – (( العنصر الاقتصادي هو العامل الأساسي)) – (( غرائز الإنسان, وبخاصة الرغبة الجنسية, هي محركه الأساسي )) ... الخ ) و ألا نتصور أنه يمكن دراسة النشاط الاقتصادي بمعزل عن النشاط الديني أو الجمالي أو الأخلاقي أو النفسي . ""
"" و الحركة العامة للمجاز هي ربط العنصر المادي البسيط بعناصر معنوية مركبة, وربط ما هو معروف ومحسوس ( عالم الشهادة) بما هو غير معروف و غير محسوس ( عالم الغيب ) حتى يصبح غير المعروف و غير المحسوس أكثر قربا" منا نحن البشر الذين نعيش في عالم المادة و داخل حدوده , و إن كنا نحلم بما وراءه . و بذا تصبح الدوال اللغوية أكثر اتساعا" و تركيبا". وهو دائما" اتساع أو تركيب يجعلها أقل التصاقا"بالمادي و الطبيعي , و أكثر اقترابا"من المعنوي و الروحي و الإنساني. أي أنه يبتعد بها عن الطبيعة / المادة , و يصل بها إلى تلك الأبعاد التي لا يمكن استيعابها في النظام الطبيعي / المادي . وبذا تصبح اللغة العادية , القادرة على التعبير عن الظواهر العلمية و المادية و الحياة اليومية في جانبها المادي – أداة كافية إلى حد ما , تعبر عن بحث الإنسان عن قدر معقول من اليقين , دون الطموح إلى الوصول إلى الحقيقة النهائية, ودون السقوط في العدمية المطلقة . كما تصبح أكثر قدرة ( من خلال الاستعارات و الكنايات و المجاز ) على التعبير عن الجوانب الإنسانية غير المادية في خيرها و شرها . أي أن المجاز اللغوي هو أداة الإنسان للتعبير عن أفكار و رؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة . ""
"" و الصورة المجازية يمكن استخدامها كوسيلة لتمرير التحيزات و فرضها بشكل خفي, فالمجاز يقوم بترتيب تفاصيل الواقع لنقل رؤية معينة . و إذا ما درسنا الخطاب السياسي الغربي وجدنا أنه يستخدم صورا" مجازية كثيرة تعبر عن الرؤية الغربية للعالم,و لكنها تبدو كما لو كانت محايدة . فحينما يشيرون إلى العالم العربي باعتباره ((الشرق الأوسط)) أو حتى(( المنطقة)) , وحينما يتحدثون عن(( الفدائيين)) باعتبارهم(( إرهابيين ))– فإنهم في واقع الأمر يفرضون صورا"مجازية تجسد مفاهيمهم . فبدلا" من(( العالم العربي)), المصطلح الذي يستدعي التاريخ و التراث و الهوية , نجد أن مصطلح(( المنطقة)) ينقل إلى وجداننا صورة أرض ممتدة بلا تاريخ أو تراث .
و لأضرب مثلا"أكثر إثارة و هو اصطلاح ((رجل أوربا المريض)) الذي كان يتواتر في الخطاب السياسي الغربي في أواخر القرن التاسع عشر . و الإشارة هنا إلى صورة رجل يحتضر, يُعالج سكرات الموت , هو الدولة العثمانية . و الصورة المجازية المستخدمة تجعلنا ننظر بكثير من الاشمئزاز على أسوأ تقدير, وبكثير من الشفقة ( دون أي احترام )على أحسنه, وننسى تماما"أن الدولة العثمانية كانت تحمي شعوبها – رغم ضعفها و استبدادها – من الهجمة الاستعمارية الغربية التي عصفت بالعالم بأسره, وننسى أن رجل أوربا لم يكن من أوربا , و إنما كان يقف على رأس الشرق الإسلامي زعيما" و قائدا"له . ومن الواضح أن صورة رجل أوربا المريض تعكس منظورا"غربيا" للقضية, ينظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها ميراثا"سيُقسم و يُوزع بين القوى الغربية, وهي رؤية لا علاقة لها من قريب أو بعيد برؤية شعوب هذه المنطقة .
و الصورة تفترض أن هذا الرجل المريض يوجد على حدود أوربا , ولكنه ليس منها , وبالتالي تحدد لنا مجال الرؤية التاريخية المسموح لعيوننا بالتحرك فيه , الأمر الذي ينسينا صورة مجازية أخرى, صورة(( رجل أوربا النهم المفترس)) , أي الامبريالية الغربية التي كانت تبيد سكان أفريقيا آنذاك بعد أن كانت قد أبادت أعدادا" كبيرة من سكان الأمريكتين الأصليين, و بعد أن أبادت سكان استراليا و نيوزيلندا, و التي كانت تقوم في الوقت نفسه باستعباد سكان آسيا, وتخوض حربا"ضارية لتسويق الأفيون في الصين لنشر التقدم الأوربي و الغيبوبة العالمية الدائمة بين ربوعه! هذا الرجل النهم كان رابضا"على حدود العالم الإسلامي بعد أن التف حوله عدة قرون خشية ((رجل أوربا العثماني القوي)) الذي كان لا يزال بعافيته, و هو كان رابضا"يتلمظ و يمصمص شفتيه على أمل أن يحل الوهن ب ((الرجل العثماني المسلم)). وحينما بدأ المرض يدب فيه كان يقضم منه قضمة هنا وقضمة هناك, و كان يدس له السم أحيانا" في طعامه , بل فيما يقدمه له من أدوية وهمية من مساعدات و خلافه . و قد جمع(( رجل أوربا النهم )) كل قواه و قضى على(( رجل الشرق الفتي)) ( مصر محمد علي) الذي كان بوسعه أن يحقن الرجل المريض ببعض المقويات , و لعله كان من الممكن أن يُشفى ويُعافى نتيجة ذلك . كل هذه الظلال و المعاني و الدلالات اختفت تماما"بسبب عبارة(( رجل أوربا المريض ))التي رسمت أمامنا صورة ((الرجل النهم))
و استخدام الصورة المجازية قد يكون واعيا", فيحاول المتحدث أن يتحكم في الصورة المجازية, ولكن بدلا" من ذلك تهزمه الصورة , بل تفضحه , إذ إن منطقها الداخلي قد يعبر على عكس ما يرمي المتحدث إليه . ""