عودة الذئب
مرحباً بكم في الجحيم (غروزني – الشيشان)
استوقفتني تلك العبارة التي رصدتها الصحف واهتم بها الإعلام رغم أنه لم يتحرك لها أي ضمير أو قلب عربيّ لدى من بأيديهم الربط والحلّ، لتوثقها الكاتبة هنا في روايتها لتصبح العنوان الأكثر إقناعاً لي للكتابة تحته، بعد أن كنت أضع خلال الكتابة عنواناً وأمحو آخر. لقد أحببتُ صورة فلسطين ورجالها الأسود واستوضحتُ صور بعضهم الحقيقية بين صور مجاهدي الشيشان وأفعالهم في تلك القصة العظيمة.
هذه الأرض المحترقة التي صار لونها بلون الرماد والحياة التي استحالت للسواد بشكل كاملٍ، بسبب الحقد أو النار... تربيت منذ صغري على أخبارها عبر المجلات الخاصة التي كنت أتصفحها في صغري حين أجدها في مجلات الأسبوع التي يأتي بها والدي – رحمه الله – بشكل دوري، لكنني اليوم أتذكر جيداً آخر مرة كتبت فيها عن الشيشان وكشمير في العام 1997 في دفتر ثمرة القراءة الذي طلبته منا معلمة اللغة العربية – في أولى سنوات دراستي في غزة - وبدأت أجمع فيه القصص والقصائد من المجلات والكتب ألوّنُ وأرسمُ، لكنني ارتدعت عن تكرار الكتابة عنهما حين لمستُ السخرية الواضحة في عيون زميلاتي في الصف، وهنَّ بنات بلد الحروب الكبيرة.
احتمالات:
ربما – أولى - كان هدف هذا اللون من الكتابة هو أحد الأهداف التي قصدها القائل لما قال: "أن للأدب أهداف أخرى غير الإمتاع" فما جاء في القصة ترك أثراً أعمق وأبعد بكثير من المتعة الوقتية، عبر مسح جبال الشيشان ومعسكرات التدريب بعينٍ أدبية تحاول أن تكون لطيفة.
ربما - ثانية - في ساعتين فقط قرأت القصة كاملة، بكل حدتها بينما كتبت مراجعتها في يومين، وربما كانت تلك المرة الأولى في حياتي القرائية تأخذ مني كتابة مراجعتي عن الكتاب وقتاً أكثر مما تأخذ قراءته أصلاً. تلك القصة عن حياة الذئاب في الشيشان جعلتني أبكي بعد أن ضحكت وتقطع تفكيري ملايين المرات شهقات البكاء عند مواقف الشهادة ومواقف العظمة والضعف والانطلاق، يرتفع صدري وينخفض مع اضطراب الأنفاس، وترتعد روحي بينما أتابع عظمة الإسلام في عدة شخوص. لأتمتم بيني وبين نفسي: "هذا المسلم الذي نريد، هذا الإسلام الذي أعرف"
ربما – ثالثة – تكون شخصيات القصة وكاتبتها في نظر البعض مجرد خيال أو وهم لكنني أصدقها حتى النفس الأخير، ليس فقط لأنني عايشت بعض هؤلاء الذئاب في بعض فترات حياتي سواء كان ذلك في غزة أو خارجها، ثم لأن الفهم النقيّ الذي أعرفه جعلني أرسم تلك الصورة.
وربما – أخيرة – تكون تلك القصة لم تحدث كما هي فعلاً، ربما تكون ضرباً من ضروب الدعوة واستفزاز المشاعر، لكن الشرخ الذي أحدثته في نفسي يستحق الكتابة عنده، يستحق التوقف عنده والبكاء بشدة ومراجعة الكثير مما دفنته قبل عدة سنوات.
قطار يتجه نحو القمة:
فكرت بينما كنت أقرأ لنفس الكاتبة رواية (سماء بلا قضبان) أن مثل تلك الروايات يمكن تحويلها إلى أفلام بالرسوم المتحركة، ولأن هذه القصة (عودة الذئب) أشبه بالواقع الذي عايشته فقد تخيلت إمكانية تنفيذها سينمائياً وهذا ليس صعباً أبداً، لكن الأمر يحتاج إلى مؤسسة منتجة تتبنى دعم السينما والرسوم المتحركة الهادفة.
بشكل أو آخر جعلتني تلك الرواية أربطها باسم شهيد مصري (مخرج سينمائي وكاتب مبدع) استشهد مؤخراً اسمه محمد الديب ليس فقط لاسم الديب بل لأن الكثير مما حدث مؤخراً حاضرٌ بقوة في قصة سامية أحمد، فبطل القصة عمر الديب الذي كان يظن نفسه مصرياً ثم تحول بين غمضة عين وانتباهتها إلى (ذئب شيشانيّ) عكس الكثير من الحقائق الموجعة والواضحة في الفرق بين شكل الحياة بين دولة ودولة، ثم كيف تتحول الأمور بين غمضة عين وانتباهتها – أيضاً - وبقدرة الله إلى العكس تماماً، عمر (البطل) الصبي الفاسد، المتهور، المؤذي، الذي لا يحترم الأخلاق العامة ولا يعرف الانتماء، يصبح فجأة وتحت ظروف واضحة رجلاً قوياً مختلف الطباع تماماً، كأنك قلبت عملة معدنية مباشرة حتى لم يتبق من خصائصها أمام عينيك إلا الشكل فقط!
لستُ متأكدةً إن كان هذا الأمرُ غريباً لدى الناس كما هو لديّ، إلا أنني متأكدة تماماً كما أنني أتنفس أن الفرق الذي رصدته الكاتبة في كل مشهد صغير وبسيط جمع بين عمر الديب (ديساروف) وزهرة أو مالك (أبناء خاله) يعكس انكساراً وزاوية حادة جداً بين طبيعة الحياة في البلدين (مصر والشيشان) وكيف أن الرجولة الحقيقية يجب أن تتعثر بأكثر من مطب حتى تصبح ناضجة مؤثرة وتؤدي الوظيفة التي خلقت من أجلها ولتصل الهدف الأسمى.
الفرق الكبير بين الجانبين يجعلني أعود للبدء فهذا هو الخط الدرامي الحقيقي الذي ستسير عليه فكرة تحويل مثل تلك القصص المكتوبة إلى أفلام مرئية. وطالما أن القطار متجهٌ إلى القمة فنحنُ نسيرُ في الطريق الصحيح.
قسراً تحت ظروف مشابهة:
أفكر في أن ما أكتبه الآن هو عبارة عن عدة عناوين لأفكار خالجت نفسي بينما كنت أقرأ القصة وليس جسماً مكتملاً وقد لا يجد فيه القارئ كل ما يريد، أعترف أنني آخذ القصة من منحى عاطفي بحت ونظرة تبشيرية أحاول أن أغزو بها قلب وعقل القارئ العربي والمسلم بالذات حين أحاول لمس نقاط الضعف لدى الشخصية العربية المسلمة وتركيز الاهتمام بها، ولا أنظر للأبعاد التي أدقق عليها دوماً كالإملاء والحبكة والسرد والخلفيات المختلفة للمؤلف... الخ، لكنني منذ بدأت قراءة الرواية راودني شعور أنني سأقرأ رواية خيالية - تصلح لفيلم كرتوني مثلاً - لكنني حين بدأت ألاحق التشويق والجذب ليس في أسلوب الكاتبة الجميل فحسب، بل في الترقب الداخلي ضمن الحالة التي عشتها مع هذه القصة، وكم الدموع التي ذرفتها والتي تتعدد أسبابها لدرجة أنني أفكر بألا أصغّرها في نقاط. ذلكَ أنني فعلاً أعيش مع تلك القصة حالةً من الشتات العاطفي والفكري، يصارعهُ التفكير في أنني يجب أن أعرض تلك المراجعة على الناشر في أسرع وقت، وإنني لن أضيع الفرصة قبل أن أشكرهُ بشدة على اقتراح هاتين الروايتين عليّ حيث خصّني بهما في مشروعه!
تحت ظروف يمكنني أن أعتبرها مزيجاً مرعباً من حياة كثير من شخوص القصة، كان الكثيرون يكتبون عن العاطفة، ويتمسكون بالحياة... ليس لديّ أية نظرة فلسفية خاصة في هذا الموضوع بالذات ولن أعلق عليه لكنني حين قرأت – مثلاً – في الرواية أسطورة الذئب الشيشاني جعلتُ أحلّق بعيداً ولكن في الخيال، كما أن فكرة نقاش البطل عمر مع ابن خاله عن الأحلام جعلتني أعود للتفكير في الزاويتين معاً كيف يعدمُ المرفهون – إلى حدٍ ما – أحلامهم بينما يصرّحُ بصلاحيتها المعدمون حتى من أقل وأبسط مطالب الحياة الكريمة، كيف تُغرسُ المبادئ في نفوس هؤلاء الرجال والبشر بشكل عام، حين يقول أحدهم في أشد حالات الفقد: "نحن لا نسعى للانتقام بل إلى الحرية... وهذا ما لا يريدونه لنا" كما فكرتُ بالربط الشديد بين مصر والشيشان ليس في إطار التفكير في شخصية البطل وحسب، بل أيضاً في حوار واضح عن مصر ومن فيها (خير أجناد الأرض) بالذات تحت الظروف القاسية التي تعيشها مصر والتي أثق ثقتي بوعد الله فيها بأن تتبدل الحال كما بالقدرة والقوة التي تبدل فيها عمر الديب إلى ديساروف الذئب، لكنني متأكدة أيضاً أن المطب المناسب لم يبرز بعد، أن الصحافية الأجنبية والطفل الذي برز كحبل الأمل الغليظ متصلاً بجدائل السماء المتدلية لمن يتعلقون بها كل وقت، هذا الأمل الذي نبت كزهرة الجبل الشيشانية من تحت الأنقاض، كل ذلك لم يحن وقت ظهوره بعد!
كل هذا التشتيت والأفكار المتداخلة في مراجعتي لتلك القصة لن أعيد ترتيبها وتنقيحها بل سأطرحها على الصفحة الخاصة بالرواية، بهذا الشكل والتدافع المكثف وغير المنظم الذي كانت ترد به إلى عقلي حال القراءة وحتى هذه اللحظة التي أضعُ فيها نقطة الختام!