كعادة حبيب سروري السرد في الرواية ذاتي أي أن البطل هو الراوي ، يجيد الكاتب هذا النوع من السرد لتشعر أن البطل جالس أمامك ليفصح لك بما في مكنون قلبه بأسلوب حميم .. قريب جدا ، يلمس مشاعرك .
أسلوب حبيب سروري رقيق مليء بالشاعرية "بالغ البلاغة" فتراه يصب المعاني في كؤوس أنيقة من الكلمات لترتشفها ذائقة القارئ بتلذذ.
يذوب القارئ في القصة يتماهى فيها لكن ما إن يتماسك فإنه يشعر بالمبالغة ، مبالغة في وصف المعشوقة ، مبالغة في وصف علاقة الحب ، هذه المبالغة قد تجعلك تخرج من تلك الأجواء الجميلة فما تلبث إلا قليلا ليعيدك أسلوب سروري الساحر للرواية مرة أخرى ، هذا ما أعيبه على الكاتب "المبالغة" والتي جعلت من قصة الحب "بلاستيكية"!
لايمكن أن يكتب حبيب سروري روايته دون أن يتطرق لوطنه ، "عدن" جنة الله التي كانت !
اسم الرواية معبِّر جدا "طائر الخراب" ، رواية ابتدأت بقصة عشق بين نشوان العدني و إلهام الصنعانية لكنها -الرواية- لم تكن قصة حب بقدر ماهي قصة وطن ، وطن كان في أزمان غابرة سعيدا والآن حلّ به الخراب ، ينتقد الكاتب الوضع المزري على لسان بطل روايته ، ينتقده بحدة وغلظة لكنك كقارئ تستطيع أن تلمس العشق اللامتناهي لذاك الجزء من العالم ، أن تشعر بالحنين الذي يملأ كلماته الحادة ، أن يتبدى لك مقدار الحسرة والألم لمدى الخراب الذي حل وظل ينتشر و يتمدد ، ومن يقرأ الواقع يستشرف ألا نهاية لهذا التمدد .
يغترف الراوي من الذاكرة ومضات عن "الجنوب العربي" -جنوب اليمن حاليا- بعد زوال الاستعمار واستلام الجبهة القومية (الحزب الاشتراكي لاحقا) للحكم ، لم يستفض كثيرا في ذلك وإنما "ومضات" كما ذكرت ، ربما افترض أن القارئ لديه خلفية بهذا الأمر أو ربما لم يشأ التوسع كثيرا فقد كان جل تركيزه على "يمن" الآن ( عام 2005 وقت كتابة الرواية) ، فنجده يذكر في الصفحة ٣٨، ٣٩ عن سفره لفرنسا عام ١٩٧٤ في "السنوات الثورية" التي كان السفر فيها مستحيلا . ١
و في الصفحة ٦٠ مرر معلومة عن تلك السنوات السوداء لحكم الجبهة القومية عن طريق ذكر إحدى عشيقاته وهروبها مع عائلتها عام ١٩٧٢ "عقب السبعة أيام المجيدة التي حولت الحياة في عدن و أريافها إلى مرقص مجانين" ٢
لم يتوقف الكاتب عن سرد المعلومات وتمرير رأيه في ماضي وحاضر وطنه ، فتراه يمرره عن طريق بطل روايته المولود عام ١٩٥٦ مثله ! ، فيذكر رأيه في الوحدة بين الجنوب والشمال ، يقارن بين عدن الماضي والحاضر ، ينتقد ظاهرة لم تكن موجودة قبل هجرته في السبعينات مثل النقاب ، يعرَّج على حرب يناير ١٩٨٦ البشعة .. وغير ذلك كثير .
تطرق لموضوع مهم كانت بوابته إلهام ، يختص بوأد الطفولة .. انتهاك كرامة و حق الأنثى في الحياة وتفرعت عن ذلك مواضيع أخرى مرّ عليها الكاتب بسرعة ، هذه الأمور وغيرها أدت إلى انزلاق اليمن في هوة عميقة من الصعب خروجه منها .
ما أود ذكره أن عبقرية الكاتب لم تجعله يخرج عن السياق أو على الأقل لا يجعلك كقارئ تشعر بذلك ، فتمريره لآرائه وللمعلومات عن اليمن يضعها خلف إحدى شخصياته أو خلف حدث ما أو مشهد ما في الرواية كمشهد رقص معشوقته والذي جعله يعود بذاكرته لرقصة "الليوة" التي كان يشاهدها في عدن عندما كان طفلا.
تمت التنقلات بين قصة الحب وقصة الوطن بخفة وسلاسة ، بل تم المزج بينهما حيث استطاع الكاتب أن يجعل منهما نسيجا متكاملاً .
رواية "طائر الخراب" رائعة رغم الألم الذي تحمله ، وتستحق القراءة ، حقيقة أخشى من قول ذلك ، وأخشى أن أوصي بها مع أني لن أستطيع منع نفسي من ذلك ، خشيتي سببها أن تزيد بشاعة اليمن في أعين الآخرين بعد قراءتهم لهذه الرواية!
---------------
١- في تلك الفترة أيام حكم الجبهة القومية ذات الطابع الاشتراكي الشيوعي والتي لم تكن تعي من الفلسفة الشيوعية سوى أسماء: لينين ، ستالين ، ماركس، فقد كانوا جهلة من قاع المجتمع صعدوا فجأة إلى القمة فعاثوا فسادا في البلاد ، في تلك الفترة كان السفر صعبا والبلد بأكملها كانت كسجن كبير ، أولئك الأوغاد كانوا حراسه ، من أراد الخروج يجب أن يأتي بمبرر وسبب مقنع لسفره ، وكان من المستحيل أن يقبلوا بسفر عائلة بأكملها خشية ألا يعودوا لذلك السجن الذي كان تحت مسمى وطن .
٢- "الأيام السبع المجيدة" كما كان يطلق عليها "الرفاق" لم تكن سوى أيام سوداء كالحة قدم فيها الغوغاء من الأرياف إلى عدن للهدم والتخريب تحت شعار أبله "تمدين الريف وترييف المدينة" فعمّ المدينة الخراب و لم تتحسن أوضاع الأرياف بل باتت أسوأ ، كانوا ينادون بتخفيض رواتب الموظفين و خلع "الشياذر" (العباءات) تحت مسمى تحرير المرأة ، تم في تلك الفترة الاعتداء على علماء الدين بقتلهم بعد تعذيبهم ، فكانوا يأخذونهم من بيوتهم ومنهم شيوخ تجاوزوا الستين والسبعين عاما ويقوموا بربطهم بالسيارات لسحلهم في الشوارع على مرأى ومسمع من الناس ، كانوا يضربون بعضهم بالفؤوس والهراوات أثناء السحل ثم يقوموا برمي جثثهم ، ومن يتجرأ على أخذ جثة أحدهم للصلاة عليه ودفنه فقد حكم على نفسه بالموت.
تذكرت رواية "قلب كلب" للروسي ميخائيل بولغاكوف والتي كانت فكرتها ضد الشيوعية -التي تنادي بإلغاء الفوارق بين طبقات المجتمع - فأجرى بطل روايته الطبيب عملية لكلب مشرد أخذه من الشارع تم فيها "استئصال ملحق المخ- الغدة النخامية- واستبدالها بغدة نخامية بشرية" تحول بعدها هذا الكلب لإنسان و أساء التصرف من موقعه الجديد الذي لم يكن يناسبه، ولما عاد كلبا من جديد عاد لطبيعته و أدى دوره في الحياة بشكل مناسب.
هذا التشبيه مناسب تماما لما حدث في جنوب اليمن أثناء حكم الجبهة القومية التي استوردت فكرة الشيوعية من الاتحاد السوفييتي ، وليتها طبقتها كما هي بل طبقتها بجهل وغباء .