تاييس
تناقش هذه الرواية مسألة، كانت وما زالت وستبقى، جزءً من أزمة الإنسان الوجودية على الأرض .. ما هو الموجود وما الذي نريده أن يكون.
بلغة شعرية مذهلة وبسرد خاص جداً، يُطلق أناتول فرانس قلمه لتدوين تلك المعضلة "الجمال بوصفه إغراء تاريخي". يبني حكايته على ثقافة لاهوتية، ما زالت حتى اليوم تسبب صراعاً ذاتياً حتى لدى أعتى العقول المتحررة والليبرالية، ناهيك عن العقول المؤدلجة دينياً. إنه يناقش مسألة الذات البشرية بعيداً عن أي منطق عقلي، وهي الرغبة المطلقة في اللذة الكامنة اتجاه الإغواء التاريخي "الأنثى" بحسب التابو الديني "أسطورة الخلق وغواية الأب والهبوط".
تاييس عاهرة فائقة الجمال، يُسكب الدم والخمر والذهب تحت قدميها، عهرها يُطعِم الجياع، ويكسِي العراة، ويقلّب مصائر الاقتصاد. لكن فجأة يتخذ الراهب بافنوس مهمة هدايتها، فينطلق في الصحاري ليصل إليها، ويقنعها بأن الروح الآثمة في هذا الجمال يجب أن تكون للإله الذي وعد الطاهرين بالخلود.
تقبل تاييس وتعود مع بافنوس، لكن لن يعود الراهب هو ذاك الشخص الهادي، لقد أُصيب بلعنة جمالها، وأصبح يغرق في معصية شبقه وحبه لصورة تاييس القديسة \ العاهرة.
لقد أنقذَ الجمال من خطيئته، فوقع بسحر الصورة القديمة العهريّة.
قد يبدو السرد بأكمله ضمن الحكاية أشبه بالموعظة، لكن المجادلات الفلسفية تفتح أبواباً مشرّعة لتساؤلات طرحها أناتول دون إعطاء أجوبة واضحة :
ما الذي يجعل رجلاً لا يؤمن بالإله أن يكون أخلاقياً ؟ ولماذا المرأة أكثر وصولاً للمعرفة الإلهية ؟ أوليس الشر هو لأننا نرتاب بفقدنا للخير ؟
بنى أناتول عالماً تشريحياً للكيان الديني المتجسد بالراهب بافنوس، خيره ورغباته وأمنياته وحقيقة ما أراد. نحت بإزميل وهدوء حقيقة الإنسان المختفي في جلباب الموعظة اللاهوتية. كشف الحب الطبيعي في الذات البشرية، لكن الإله حوّله في النهاية وحشاً قبيحاً، فحتى الإله (بالمنظور الكنسي) يفسّر الحب لا كصورة لفقدان عبد قدّم روحه للإله فقط، بل لأنه وقع في شرك الغواية التي أنقذها بافنوس.
المعيار هنا هو الحب .. فالراهب الذي تحوّل لإنسان طبيعي قادر على العشق أضحى وحشاً وله مصير شنيع في الخلود، والعاهرة التي تابت للإله وماتت بجمالها لها نعيم الخلود.
ما ناقشه فرانس ليس فقط صورة تفكير ورؤية الإله الكنسي، بل صورة الإله المطلقة اتجاه ما افترضه البشر على أنفسهم، خياراتهم وغواياتهم.
قد تكره بافنوس في البداية وقد تحبه، ذلك يخضع لطبيعة إيديولوجيتك وأفكارك، لكنك في النهاية لا تمتلك سوى خيار واحد، هو أن تشفق على بافنوس وتحتقر تاييس، رغم جمالها وإيمانها المطلق.
إن كان الجمال غواية وعهراً، فلا تنقذه من غوايته ومن عهره، بل دعه مطلقاً، فإن شئت أغرق به وكن إنساناً، وإن شئت ابتعد عنه وكن إلهاً.
هذا الفرنسي نحّات هادئ وذكي.