حسنا، لم يتبدد الضباب في النهاية.. ولكنني أحببته!
هذا الكاتب ساحر يطوع الكلمات بشكل عجائبي، عاشق حقيقي للكتابة يكتب بشغف تنتقل عدواه للقارئ، يجعلك تقع في غرام كلماته حتى لو لم تدرك المقصود منها بالضبط.
نجح هذا الرجل في قلب معايير تقييمي للروايات رأسا على عقب، وجعلني أنا الذي أمقت الغموض غير المفسر أفتن بثلاثيته الغامضة بأسئلتها غير المجابة وجميع تأويلاتها المحتملة.
لا يمكنني القول أن هذه الرواية تفتقر إلى المنطق، لكن لها منطقها الخاص المقنع في سياقها.
هذه رواية عصية على التصنيف، وربما على فهم مغزاها بشكل أكيد، لكنها عبقرية بالتأكيد، وعبقريتها تكمن في قدرتها على سحب القارئ في عالمها الضبابي الآسر محكم البناء، وإجباره على الاستمتاع بمتاهاتها اللانهائية، متحسبا أن يقابل ذاته في إحدى منعطفاتها!
هذه الرواية عن الذوبان، ذوبان الكاتب في شخصياته، وذوبان الشخصيات في بعضها. عن تقاطع الحيوات وتحولها وتبادلها، بين مراقِب ومراقَب يتبادلان الأدوار باستمرار، في رحلة بحث معلومة البداية مجهولة النهاية، تبدأ فيها شخصا وتنتهي شخصا آخر.
يرجع جزء كبير من انبهاري بهذه الثلاثية لرواية الغرفة الموصدة التي كانت بحق مسك الختام لهذا العمل، حتى وإن لم تتوفر بها الإجابات التي كنت أبحث عنها أو أتمناها، حتى وإن زادت الإشارات القليلة في نهايتها اللغز غموضا، إلا أن حالة النشوة الذهنية التي خرجت بها منها - والتي صاحبتني من أول حتى آخر صفحة فيها - أسكرتني وطغت على رغبتي في معرفة الحقيقة واضحة لا لبس فيها، ووقعت في أسر ضباب أوستر الفتان!
يلزم التنويه أن تلقي هذه الرواية يخضع بشدة لذوق القارئ الشخصي، فإما أن يقع في هواها مثلي أو ينفر منها، فلا يمكنني الجزم بسر حبي الشديد لها، ولن أعجب لو لم تلق نفس الصدى عند قارئ آخر.
تبقى إشادة واجبة بالترجمة البديعة لكامل يوسف حسين التي كان لها دور مهم في الحفاظ على أسلوب أوستر ونقل تراكيبه اللغوية المميزة.
وأخيرا شكرا جزيلا لصديقي العزيز هاني عبد الحميد على هداياه المفاجئة الجميلة، ربنا يديم الود والمعروف يا صديقي :)