حسناً ! ...لم تكن تلك غايتي!!..فلطالما رأيت الملحد كشخصٍ قرر يوماً أن يلقي بإيمانه على قارعة الحياة ليكمل سيره أعزل....وكنت أسأل: ماذا ترك لأيام البؤس وألآم المرض؟؟ ....ألم يلكزه الزكام ولو مرةً ليفترض أنه أضعف من ذبابةٍ في الهواء؟؟ وأن العالم أقسى من أن يواجهه عارالقلب وحده ؟؟ وإن حدث و كسرت له الدنيا إحدى ذراعيه فإلى من سيمد الأخرى بالرجاء ؟؟ ....من أجل ذلك كان بي شغفٌ لاقتفاء هذه اللحظة الحالكة من أعمار أشهر الملحدين بالإسلام......لحظة القرار!! ...وكان بودّي لو تتبع دكتور(عبد الرحمن بدوي ) خطاها النفسي في أقدارهم ..شخصياتهم ومبادئهم ..أحبتهم وذويهم ..ويظل بالشواهد يقصّ أثرها فيهم حتى حواف القبور ..أردت صورة إنسانية حية من القرار إلى القرار ... علّها تساعدني لأن أتهادى متواضعة من علياء يقينٍ بالقلب لا أملك من فضله إلا القدر الذي يملكه الحيّ فينا من استمرار نبضه...فأراهم من بعد ذلك برفق الناظر إلى المبتور يداه ..وكنت سأقتبس حينها صادقة لا مدّعية تعريفه الحاني للإلحاد قائلاً: ((أنه نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفذت كل إمكانياتها الدينية فلم يعد بوسعها أن تؤمن بعد )) وأن أرى في حالي أكثر منهم انعكاسا للآية الجليلة ((أفرأيت الذي اتخذ إلهه هواه ))....أردت لنفسي قلباً سمحاً لا يرتدي مسوح الملائكة حين يشكر الله إيمان قلبه ويرجوه صادقاً لسواه...فلم أجد!!
ورغم أنف ما أردت وما لم أجد ...فأعدك أنك بإزاء تحقيقٍ دقيقٍ لكل الوثائق التي ضمنت حجج أشهر الملحدين في الإسلام ..أسماء الكتب التي خلّفوها ومقاطع من المناظرات التي أوردوها ..والملل التي انتسبوا إليها ثم سبّوها ..ومدى صحة نسبة هذا كله إليهم ..يتخلل هذا كله هوامش لها من السمنة أحيانا مالا تتجاوزه عين قارئ ..وتحوي أسماء الكثير من المراجع لمؤرخين عرب ومستشرقين عجم لكل مهتم ببحثٍ هو أبعد منالاً عما أورده (عبدالرحمن بدوي ) في كتابه هذا... ولن تستطيع إلا أن توقر هذه الدقة في نفسك ....غير أن ميله الغريب لإيراد أرقام الصفحات المقتبسة ومواقع المقاطع المحددة في النص الأساسي أيضا فضلاً عن هامشه، جعل الأمر يبدو كخريطة وثائقية عن الإلحاد....وأظنني لست بحاجة لتذكيرك بأن رحلتك هنا لا تشمل الاستمتاع فلا تفتقده ...ويكفيك أن تعلم أن (باول كروس) وهو أشهر المستشرقين الذين حللوا هذه الوثائق قد انتحر قبل أن يتم جزء بحثه الثاني .. ..فكل الطرق حول الإلحاد وإليه موحشة!
يشير الدكتور (عبدالرحمن بدوي) في أكثر من موضع إلى هذه المقارنة التي لاحظها بين ملحدي الشرق والغرب فيقول: ((إذا كان الإلحاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك الذي عبّر عنه نيتشه حين قال : ((لقد مات الله)) وإذا كان الإلحاد اليوناني هو الذي يقول : ((إن الآلهة المقيمين في المكان المقدس قد ماتت)) فإن الإلحاد العربي وهو الذي يعنينا هنا في هذا الكتاب هوالذي يقول : ((لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء))..)) على اعتبارأنهم عليهم السلام يمثلون الواسطة بين الله وعباده وهي الفكرة التي رفضها كل الملحدين العرب وعلى هذا فإن الإلحاد (العربي) ((كان يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تكوّن عصب الدين وجوهره ..وهذا يفسر لنا السر في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعا إلى فكرة النبوة وإلى الأنبياء وتركوا الألوهية... ولا فارق في الواقع للنتيجة النهائية بين كلا الموقفين .. فبإنكار الاله اللامتناهي عند الغربي ينتفي الدين وبإنكار النبوة والأنبياء عند العربي تزول الأديان ))
ثم جمع النزعات الفكرية التي سادت بهذه الفترة التاريخية والتي عُرفت (بعصر التنوير) فدفعت ببعض مفكريها إلى السقوط بهذه الهاوية فقال واصفا إياها: (( وكان شأنها شأن كل نزعة تنوير تقوم دائما على تمجيد العقل وعبادته بحسبانه الحاكم الأول والأخير وهي نزعة عقلية متطرفة)) وسادت في حضارات أخرى كاليونانية والأوروبية وعلى رأسها (فولتير) ..أما أشهرها من العرب فهم (ابن راوندي وابن زكريا الرازي). .
أما النزعة الثانية فتقوم على ((التقدم المستمر للإنسانية وهي الفكرة التي أكدها (جابر ابن حيان) وكانت تمثل اتجاها مضادا للاتجاه السنني الخالص والذي يرى كل شئ من العلم إلى النبي ويرى كل تباعد عن عهد النبي تقهقرا في العلم وبالتالي في الحضارة والتمدن وهذا يفسر لنا السر في ترتيب العلم ترتيبا تنازليا من عهد النبي فنازلا من الصحابة إلى التابعين ثم تابعي التابعين وهكذا في طبقات تنازلية يقل حظها من المكانة والعلم والتقدير كلما بعدت عن عهد الرسول (ص))) وهو ما رفضه جابر بن حيان وأمثاله من مفكري عصر التنوير ودفعهم من بعد ذلك إلى رفض فكرة النبوة كلها لكل الأنبياء فهم ينظرون إلى ((الإنسانية على أنها تتقدم باستمرار في خط يسير قدماً بغض النظر عن البعد أو القرب من الرسل والأنبياء)).
أما النزعة الثالثة فهي ((ترمي إلى الإرتفاع بالقيم الإنسانية الخالصة في مقابل القيم الإلهية والنبوية )) مثل الشعراء الذين عُرفوا ((بعصابة المجّان)) وأشهرهم ( أبو نواس) ((وما ينسب إليهم من عبث وشك إنما يقصد به السمو بكل ما هو إنساني أرضي حسي وإلى الحط من كل ما هو فوق أرضي فالإنسان كائن حي عيني يريد أن يعبّ من كأس الحياة ويلتصق بالأرض أمه الحنون الحقيقية وليس خيالا كاذبا أو هيكلا نورانيا مزعوما ينزع إلى الموت ويشيح بوجهه عن الحياة كما يدعي المتدينون))
تحدث من بعد ذلك عن الزندقة واتساع مفهومها اللفظي حتى شمل الملحدين المنكرين بالكلية إنتهاء بالعصاة الماجنين ...مما جعل في الأمر خلط في تأريخ بعض الشخصيات التي لم يكن لها كتب صريحة بهذا الشأن أمثال (ابن المقفع) والذي نُسب إليه مخطوطة تدعى (باب برزويه) والتي تتضمن ((بغض ممزوج بالشك اتجاه الإسلام الذي اعتنقه ظاهريا وقلة احترام للقرآن))كما نُسب إليه إبطان عقيدة انتشرت في تلك السنين تدعى (المانوية ) ثم يضيف في موضع آخر ((وقد رأينا من قبل خلو كتبه (كليلة ودمنة ) و(الأدب الكبير) من كل عنصر للتدين الإسلامي والتقوى ولم نجده يؤكد إلا مطالب الأخلاق والجماعة الإنسانية )) وهو ربما ما حدا به إلى اعتناق هذه الديانة كما أثبت بعض المؤرخين على اعتبار أتها دين سامي يحقق له ذلك ...وهو الوحيد الذي ساق (عبد الرحمن بدوي) نهايته المحزنة بأن قُتل ومّثل بجثته من قبل (سليمان ابن معاوية ) والذي قال من بعدها : ((ليس في المثلة بك حرج لأنك زنديق قد أفسدت الناس)) ثم يضيف عبد الرحمن بدوي مستهجناً : ((كما لو كان في ذلك إراحة لضمير قاتليه ولو أني لا أعتقد في أن اتهامه بالزندقة كان الباعث الحقيقي على قتله))
أما أوجّ الإلحاد فكان القرن الثالث والرابع الهجري ومما ستلحظه لا شك هو هذا التحضر الذي حدا بكتّاب أمثال (ابن الراوندي) وكاتب مسيحي يدعى (الكندي) إلى تأليف كتب كاملة وصريحة لدحض فكرة النبوة وتكذيب الأنبياء جميعهم ..ثم تجد في المقابل علماء المسلمين من كل الطوائف السنية (كابن الجوزي) والشيعية والإسماعيلية والأشعرية (كأبو الحسن بن إسماعيل مؤسس المذهب) والمعتزلة ك(أبوبكر الزبيري) يردون عليهم بمناظرات وكتب أخرى دون أن يمس أحد منهم الآخر بسوء ..بالرغم مما ورد بكتاب (الزمرد) لابن الراوندي على سبيل المثال من مقاطع ستجد فيها تهكماً صريحاً واجتراءاً قبيحاً على القرآن لفظاً ومعنى وعلى الأنبياء كلهم رسائل ومعجزات حتى وصل إلى دحض الإيمان بالملائكة عليهم السلام ....والحقيقة لا أجد في سرد شيئاً من هذه المقاطع حاجة ها هنا إلا أن الفكرة الباعثة على التأمل بالنسبة لي هي هذه الحريات الفكرية التي تنعم بها هؤلاء جميعاً في عصر له هذا القدم.. للدرجة التي تدفع بملحد آخر يدعى (أبو عيسى الوراق) لأن يتنازع الملكية الفكرية لكتاب (الزمرد) مع (ابن الراوندي) ولا يجد أحداً في الأمر شيئاً غريباً .
وبالرغم من أن (عبد الرحمن بدوي) ابتعد في تأريخه عن تحليل شخصيات مشاهير الملحدين أو سرد وقائع حياتهم ... إلا أن شيئا ما في حديثه عن (جابر بن حيان) يجعله قريباً من القلب ..فهو يبدو كهذا الرجل العالم الذي قد يدفعه جهل مجتمعه إلى مخالفتهم بينما لم تختلف أي من الوثائق على ما كان له من روح راقية النزعة ونفسا حسنة الخلق ...أما أبغض الشخصيات إليّ فكانت للفيلسوف الطبيب (أبوبكر الرازي) حيث تبدو نبرة الغرور عالية جدا في فلسفته الرافضة للنبوة والكتب السماوية جميعها وكان يرى أن أسباب زيادة عدد المؤمنين مقارنة بالمنكرين مثله لا ترجع إلا إلى هذه الأسباب (( أولها التقليد وثانيها السلطة وثالثها المظاهر الخارجية للتدين والتي تبهر عثقول البسطاء ورابعها التعود)) وغير ذلك من الأفكار التي دوّنها بكتابيه (العلم الإلهي) و (مخاريق الأنبياء)..ولو كان له أن يختار قبلة إليها يصلي لاختار العقل ..وعقله هو دون سواه.
أن تصدق ما تقرّه حواسك ويرتضيه منطقك فأنت عاقل ولا فضل لك ....بينما تكون مؤمنا فقط حين تصدق ما اطمئن إليه فؤادك على ما خفي فيه من إدراكك....وإلا ما نفعها الجنة والنار إن لم تكن أنت (أبابكر) يخبره صديقه ذات صباح في ملأ أن أُسري بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرجت منه إلى السماء بلا برهان فيقول (صدقت) ....أبقى الله طيفاً ضبابياً شاحباً أبد الدهر بين التصديق والإيمان ...نغمتان إنسانيتان من نفس المقام غير أن الأولى عزف عقل أما الأخرى ففعل قلب ..من أجل ذلك ربما كان إليه نظرالرب....والله الغني ونحن الفقراء.