رواية (القريبة كاف) للأديب ياسمينة خضرا،فيها مدارك إجتماعية و نفسية و إنسانية،و هذه المدارك أتت بهذا التقسيم نوعا ما في الرواية ،و إن كانت تتداخل أحيانا،و صياغة تلك المدارك كانت على هيئة إعترافات،إعترافات منها ما كان بوحا متكتما ،و منها ما كان سخرية ذاتية،و منها ما كان تدوينا لما تم و ما يتم ،و منها ما كان صراخا منقبضا ،و منها ما كان تلعثما متخبطا حول كل شيء،و منها ما كان جرحا ينزف في سكون من لامبالاة !
فبالنسبة للمدارك الإجتماعية ،نرى في حكاية البطل ضغوطا شديدة و هي جاءت لحياته كحزمة واحدة ،فوالده إنتهت حياته بطريقة مؤلمة و هو في سن صغير،و ثروة والدته و مكانتها في مجتمعها ضاعفت من عزلته و قيدته و قيدتها أيضا،و حتى أقرب الناس إليه آنذاك و هو أخيه إختار الدراسة بعيدا عن محل سكنهم ،فبطلنا أصبح أسير تلك التراكمات الإجتماعية المحيطة به،فهو عاش في وطأة البهرجة الظاهرية التي غلفت مجتمعه،و يبدو كالحائر ما بين رغباته في الإنفصال و بين حتمية البقاء مع أمه لتصيبه وحدتها...
أما المدارك النفسية،فهي الأكثر طغيانا في هذا النص الأدبي و هي الأشد إمتاعا،فصفحات الرواية هي أشبه بمسودات لمريض نفسي تقلبها أصابع فرويد،فالبطل الذي يظهر طبيعيا للغاية و أمه التي تظهر كذلك ،ليسا في الواقع في حالة نفسية سليمة،فأمه تعيش كتلتها الجسدية فقط معه أما عواطفها و آمالها و كل ما فيها فيعيشون مع إبنها أمين ،و من شوقها لأمين هي تنادي بطلنا بأمين،هي تترقب رسائل أمين و كلمات أمين و لا تنصت لكلمات إبنها الذي بجوارها،هي تعامل الجميع ببرود و بشيء من الجفاف إلا أمين و قريبة لها،أما بطلنا فهو الذي لا يسمح له بدخول غرفة أمه و لا المساس بغرفة أمين،فتصلبت مشاعره و تجمدت مع الوقت،فصار حاله كالهائم بلا سبب ،وهو حتى حينما يذكر والده نحس بأنه لا يضمن فيض حنان مع تعبيراته،هو عابث بالأيام فيتركها تمضي دون أن يسألها عما تفعله به ،و يوم الجمعة و ما به من جنائز كان يؤنسه و يهيج فيه شيء من الأحاسيس و لكنه بات يوما عاديا كغيره ،و مع كل ذلك كان يشترك مع أمه في إنتظار وصول القريبة كاف بشقاوتها و غنجها و كل ما تمثله من تناقض لصفاته،أمه تعاملها بإسباغ الدلال عليها و كأنها هي إبنتها و هو يشهد و يشاهد ذلك،أما علاقته بكاف فهي كعلاقة أمواج البحر برمال الشاطئ،فهناك اللقاءات المستمرة و المداعبات و المشاكسات ،و أيضا الحدة و اللين و القرب و البعد،هو يتمنى أحينا أن يذوب إسم كاف فيزول عن الوجود ،و تارة يتمنى لو أن إسمها و حبها ذابا في قلبه،قلبه الذي تتخاطفه ذكراها،هو مختطف القلب حينما يجول في هذه الدنيا و هو يتأمل ملامح كاف في كل مكان زاره أو حل به....
و بخصوص المدارك الإنسانية،فالبطل في آخر الصفحات يعود لنا كطفل يفضفض لنا عن فعلة شنعاء قام بها،فبعد أن عرفنا خلفيته الإجتماعية و خلفيته النفسية سنسمع منه ما إقترفته يداه في وقت مضى،فمسرح جريمته السابقة غافله و دخل حاضره،فإلتبست عليه رؤيته و إنعدمت بصيرته،هو رأى فتاة بحاجة للمساعدة فهب لعونها و قام بدعوتها لمنزله حتى تعثر على وسيلة مواصلات،و لكن الحدث لم يتوقف عند هذه النقطة ،و إنما كانت هذه الذروة لإنفعالاته و ما مكثت في ذهنه من تداعيات قديمة،و في هذه الذروة يتحول الغريب اللامبالي إلى ثائر يطالب بالحب،هو يريد أن تتم مبادلته الحب،هو لم يحصل على الحب من والدته ،و حتى أخيه لم يبق ليمده بإهتمام أكثر ،و بالطبع كاف شاغبت قلبه و لم ترض به ،فالطفل الذي أراد رسالة تصله من أي أحد و تعهد بأنه سيحافظ عليها و لن يفتحها يريد ان يعترف بوجوده،فصار يختال متهكما من الفتاة التي أمامه ،و من طيف القريبة كاف التي غدر بها و تسبب في أذيتها و لم يخطر ذلك في بال أحد،فهو لطالما كان مسالما و صامتا،حديثه لنفسه و مع نفسه،و في هذه اللحظة تصاعدت القطعة الكلامية المتشاقية التي كانت تقولها كاف ساخرة منه و رافضة له،فتصاعدت غيرته و رغبته في الإنتقام و معاندته لما حدث له ،هو أراد أن يرد على الجميع برسالة حروفها منسكبة بالدم و إنعدام التوازن...
رواية (القريبة كاف) للأديب ياسمينة خضرا،فيها بطل تحول ما به من عشق وهيام إلى هواجس حقد و كراهية و إستصراخ في الإنتقام !