رأيته ماثلاً أمام عينيّ، خاطبني بصوته الرخيم ، وشعرت بلسعات درّته. وكأنني كنت هناك ، وكأنه قصدني أنا.
أن يكون تاريخ تمام الكتاب هو نفسه تاريخ مولدي ، وأن يكون التاريخ تذييلاً لفصله الأخير ، فصل الاسترداد والولادة ، خلق لدي إحساساً بأنه كان يخاطبني أنا ، أنا وحدي .
قد يكون أيٌ منّا ، وقد لا نكون في زمن استرداده أصلاً . ولكن يجدر أن نحاول مع ضعفنا وقلة حيلتنا .
لاسترداده فلنحدث الطوفان ، طوفان يجرف معه كل ما قد تراكم في الصدور والعقول ، لينجلي بعدها تاركاً مساحة بيضاء لإعادة الإعمار ، إعمار الذوات ، إعمار القلوب بالإسلام ، لن أقول من جديد ولكن أقول : لأول مرة.
عمر .. الفاتح العظيم ، الأب الرحيم، القائد الملهم، القاضي العادل، الشيخ الجليل ، العابد الزاهد ، الورع التقيّ ، القويُّ الأمين ، معزّ الإسلام .. والأول في كل شيء.
فعلاً .. كان عز الإسلام على يديه، كيف لا وهو أحبُ العمرين إلى الله ؟ ومن أحبه الله ، فكيف عسانا ألا نحبه.؟؟
لم تتعب الخلفاء من بعدك يا عمر ، بل أتعبت جميع المسلمين . بماضيك وما أصبحت عليه بعده. معلماً إيانا بأن العبرة دوماً تكمن في النهايات .
بكونك بشراً اقتحمت أبواب المستحيل لتجعله واقعاً، وتبني تلك المدينة الفاضلة بحذافيرها وأزيد، بعد أن كانت خيالاً في أذهان المفكرين.
ظهرت في أصعب لحظات الأمة، لتنير الدرب لمن بعدك ، وتفتح القلوب قبل الدروب ، وتقوم المعوجّ بدرّتك. فهمت كتاب الله وسنة رسوله فهماً أحييت به ديننا.. أحياك الله .
فكيف لا نرجو استردادك بعد كل ذلك ؟؟
قد ننجح ونسترد جزءاً منه في ذواتنا ، أو نسترده في جزء من ذواتنا .
لنستلهم من سيرة هذا القائد الفذّ ، كان هذا الكتاب . لا تباكياً على ماضٍ مضى ولن يعود ، ولا دعوة للفخر بأن كان في ماض الاسلام قائد كعمر، بل لنرى ونتعظ فنعمل لاسترداد مسيرته لا سيرته.
يحضنا لأن نكون نحن من يزرع البذرة، لتنمو إرثاً عمرياً في أحد أبناءنا. أو -أقلّه- نحاول استصلاح الأرض لبذرها ، رجاء أن ينبت فيها عمر جديد يوماً ما .
وسينبت -كما نبت في ذاك الزمان- ولو بعد حين .
*********
عبقرية العمري وروعته تجسدتا في هذا الكتاب .
الأسلوب المؤثر لحد البكاء أحياناً، التفكير العميق الواعي ، فهم النصوص على نحو مختلف تماماً، التحفيز ، وإيقاظ القلوب بكلماته المزلزلة بنبرة المقهور على حاضر أمته. وخاتمة المسك التي أنهى بها الكتاب ، كل ذلك يجعل من العمري كاتباً فذاً ومفكراً مبدعاً قلّما نرى شبيهاً له بين كتّابنا .
جزاه الله عنّا كل خير ، وهنيئاً له كونه حفيداً من أحفاد ذاك العظيم .. عمر .