تكمن متعة هذا الكتاب في قدرته على أنسنة الأسطورة، وهي عملية ممتعة بقدر خلق الأسطورة ذاتها.
لا شك بأن صلاح الدين يعد شخصية أسطورية، ومازلنا نتطلع لسيرته بإجلال بسبب واقع الاحتلال الإسرائيلي. لكن لو لم تكن فلسطين محتلة؟ وفِي السياق نفسه يسوق مؤلف الكتاب سؤاله الشهير: ماذا لو أن صلاح الدين مات قبل حطين؟ هل كان التاريخ سيذكره؟
التاريخ الشعبي قائم على استحضار الأساطير. وليس أدل على ذلك من مادة هذا الكتاب الذي يعيد تقديم صلاح الدين كشخصية فذة -لكن واحدة- ضمن عشرات ممن خلقوا مرحلته. وتلك المرحلة امتدت عبر قرن كامل ولَم تصنعها عزيمة جيل واحد.
لقد كان الانتصار في حطين محض إرهاص لعملية سياسية وفكرية معقدة بدأها نظام الملك في بغداد وأتمّها نور الدين محمود حين أسقط الفاطميين ببيدق صلاح الدين. قد يكون من المبتذل ان نستحضر هذه الأسماء كعوامل في صراع سنّي-شيعي خلال القرن الحادي عشر، لكن الحقيقة هي أن هذا الصراع، بكل خلفياته العقدية وتبعاته السياسية ومآلاته واحتمالاتها قد أفضى لحراك مهول كان من أبطاله التالية أسماؤهم: نظام الملك، والوزير ابن هبيرة والامام الغزالي والنيسابوري وابن قدامة المقدسي والقاضي الفاضل وابن الأثير، وألب أرسلان السلجوقي والأتابكة الزنكيون، والأيبوبيون نجم الدين وشيركوه والفاطميون خلفاء ووزراء وآخرهم شاور والعاضد، وغيرهم كثير. صلاح الدين كان محض فرد، يجادل المؤلف انه كان عبقرياً بلا شك، لكنه كان محض فرد واحد خدمته عبقريته وخدمته ظروف شتى ليستعيد مصر إلى الحظيرة السنيّة، وليرث مكانة نور الدين زنكي -غصباً عن ذريته- وليدخل في صراع سُنّي-سُنّي مرير ليوحد الموصل وحلب والشام ومصر أخيراً، بالرغم من كل دواعي الفرقة الأصيلة.. فينتصر في حطين. ثم لا تلبث الوحدة الهشة التي صنعها أن تتضعضع في خمس سنوات سريعة تخللتها حملة ريتشارد قلب الأسد المريعة.
هذا كتاب بديع في سرده وإحاطته بتفاصيل الصورة. الأبطال لا ينبتون بغتة والانتصارات لا تصنعها النيات الحسنة. رحى التاريخ بطيئة وساحقة. صلاح الدين، الكردي الشافعى الأشعري كان نتاج معصرة رهيبة نجا هو منها بالكاد، وبفضل مهاراته بالطبع. لكنه كان محظوظاً جداً.. لأنه الوحيد الذي نذكره جيداً إلى الآن من أبطال ذلك الزمان المدهش الحافل بالنجوم.