(قد تحتوي هذه المراجعة على حرقٍ لبعض أحداث الرواية ولنهايتها)
ليس ثمة سببٌ مُقنع قد يُبرر التوصية بهذه الرواية لأي قارئ آخر، إلا أن يكون قد قرأ "بندول فوكو" لنفس المؤلف وشعر بفضولٍ حيال "مقبرة براغ". لمثل هذا القارئ وجب التنويه: "مقبرة براغ" ليست "بندول فوكو"، بل "خلطة" رخيصة لا يُفرقها عن خلطات روائيين آخرين - مثل دان براون - إلا شهرة المؤلف و"هيبته" وسعة علمه بالتاريخ، الأمر الذي نتج عن موقعه الأكاديمي. وقد تلقيت مثل هذا التحذير قبل قراءة الرواية، لكن، قاتل الله الفضول.
محبو نظرية المؤامرة سيجذبهم الكتاب، فالكتاب يتحدث عن مؤامرة كُبرى، ليس مؤامرة كونية مثل مؤامرة "بندول فوكو"، بل مؤامرة أوروبية آرية-سلافية ضد الشعب اليهودي. موضوع الكتاب - كما سيعرف من اسمه كُل مُهتم بالمسألة - ما صار يُعرف بـ "بروتوكولات حكماء صهيون". قد يحضر إلى الذهن عند الحديث عن "بروتوكولات حكماء صهيون" مسلسل محمد صبحي "فارس بلا جواد"، الذي يقدم نظرية مؤامرة ركيكة وباهتة بالاعتماد على هذه البروتوكولات المزعومة. أمبرتو إكو أكثر فصاحة وحذقاً ومعرفة بالتاريخ، لذلك فإنّه يُقدم نظرية مؤامرة مضادة مفادها أن اليهود قد وقعوا ضحية للتآمر الأوروبي عليهم. لكن، آخر الأمر، لا يوجد فرقٌ فكري بين "فارس بلا جواد" وبين "مقبرة براغ"، الفرق فقط في مستوى الفصاحة والمعرفة، فيما الفكر يتشابه: نظرية مؤامرة تنسب لليهود كل شيء، ونظرية مؤامرة تنفي عن اليهود كل شيء، بحيث يتحول اليهود إلى شعبٍ سحري.
في هذه الرواية، يأخذ إكو كثيراً من رواياته السابقة. كُل روايات إكو تحتوي على مؤامرة ما منسوجة في قلب التاريخ الغربي، لكن مؤامرة "مقبرة براغ" تُذكِر أكثر ما تُذكِر بـ"بندول فوكو" التي تحتوي على مؤامرة كونية. في "مقبرة براغ" تحضر تنظيمات: الماسونية، اليسوعية، والروزاكروتشي (الصليب الوردي) وتنظيمات أخرى بشكلٍ شرفي، وهذه التنظيمات قد أُشير لها في "بندول فوكو". كما أن بُنية "مقبرة براغ" و"شخصيتها" الرئيسية تشبه "بادولينو". في "بادولينو"، تكون الحملة الصليبية الرابعة بقيادة فريدريك بارباروسا، ووفاة بارباروسا نفسه، نتائج لمؤامرة تنتج عن خيال روائي كذّاب هو بادولينو. بادولينو كان ينطلق من عاطفة شاعرية وولع بالقصص الخرافية ومحاولة تحقيقها، فيما سيموني سيمونيني - بطل "مقبرة براغ" - ينطلق من عاطفتين متضافرتين: الكراهية والولع بالتدليس.
كالعادة، سيموني سيمونيني إيطالي، هذه المرة من بيمونتي، وهو مثل كُل إيطاليي إكو، مُشتت بين الاعتزاز بمسقط رأسه، والاهتمام بشؤون إيطاليا الموحدة - يتضمن ذلك احتقار بقية المقاطعات والمدن الإيطالية، والهرب من إيطاليته. وهو لإيطاليته شريدٌ أوروبي، يُحكِم عن طريق مكره وحذقه وبراعة لسانه القبض على مفاصل السياسات الأوروبية والتاريخ الأروبي. سيموني سيمونيني منسوب إلى شخصيةٍ تاريخية، النقيب سيمونيني، وله رسالةٌ إلى قسٍ يسوعي يُحذر فيها من اليهود تلعب دوراً في الرواية، حيث أن سيموني حفيد النقيب سيمونيني التاريخي، ويستخدم هذه الرسالة لبنةً في بناء مؤامرة "مقبرة براغ".
سيمونيني يكره الناس ويحتقرهم، جميع الشعوب والملل والطوائف، لكنّه يخُص اليهود بكمٍ وافرٍ من الحقد والكراهية، والفئة الوحيدة من الناس التي يكرهها أكثر من اليهود هي النساء، فهو يكرههن ويحتقرهن ويتقزز منهن. سيمونيني يعمل مزوراً وجاسوساً، وهذا هو البطل الذي يُمضي القارئ معه مئات الصفحات.
المفروض أن سيمونيني هذا مزورٌ بارع، قضى حياته يزور الوثائق "الأصلية" لكل من يشتريها، المخابرات البيمونتية، المخابرات البروسية، المخابرات الفرنسية، والمخابرات الروسية. كما أنّه يعمل في تزوير الرسائل والوصايا والعقود للزبائن العاديين.
وراء قناع عداء سيمونيني الشنيع لليهود، يختفي أمبرتو إكو. ليس أن إكو نفسه معادٍ لليهود ويستخدم سيمونيني لتمرير آرائه - بخلاف رواياته السابقة - لكنّه يخلق من سيمونيني "البعبع" الأوروبي الذي أكل اليهود، فهو جشع ونهم وعدواني ومزور وكذّاب وقاتل وكاره للنساء، تحركه نوازع الكراهية والاحتقار والأنانية، وهو يتجنى على اليهود ما جاء في حكاياتِ غيلانٍ أخافوه بها وهو صغير، وتبرمٍ بالثراء اليهودي أحاطه وهو بالغ. ليس لدى سيمونيني أي سببٍ منطقي لكراهية اليهود، وهو لا يعرف أي يهودٍ يُذكرون، باستثناء جاسوسٍ يشتبه في أنّه كان يهودياً وتنصل من مِلته، وفتاة يهودية من الغيتو في بيمونتي صدته عندما تحرش بها وهو مُراهق. (مما يجعله - بطبيعة الحال - معادياً للنساء واليهود، مثل أي "بطل" رواية معاصر يستحق هذا الاسم).
مركز قوةِ إكو الرئيسي خبرته الواسعة بالعوالم القروسطية، وقدرته على رسمِ تفاصيلٍ دقيقة للحياة في القرون الوسطى، فيما الرواية تدور في القرن التاسع عشر، وليُعطي شعوراً بطبيعة القرن، يُفصِل إكو في أمرين: ذِكر أصناف الطعام، وذِكر أنواع القنابل (مع أنّه ليس ثمة عددٌ كافٍ من الفوضويين في الرواية، رغم أن لهم في صناعة القنابل باعاً وكعباً). وبشكلٍ ما، يجرُ إكو الرواية إلى عالمه القروسطي من جديد، فهناك رُهبان يسوعيون ومؤامراتٌ بابوية وملوك متحاربون، الخلطة التي يُصنع منها مسرح أحداث أي رواية لإكو - مع استبدال اليسوعيين بمن يلزم من التنظيمات الكنسية، حسب الرواية.
المسألة، فحسب، مع هذه الرواية، أن المؤامرة ليست مخصصة لاستكشاف سرِ الأسرار، بل المؤامرة مُخصصةٌ لإبادة اليهود، ومن السهل أن يمد القارئ خيطاً من الرواية إلى النازية، وإكو لا يثق في ذكاء القارئ - الذي أتعبه طوال النص بإحالاتٍ وإشاراتٍ ومؤامراتٍ مرهقة - فيُسمي أحد الفصول الأخيرة "الحل النهائي". (أنت، رأيتك وأنت تقرأ بإهمال في محطة الباص ولم تربط الأمر بالنازيين في رأسك! أنظر! أنظر! "الحل النهائي"! مثلما فعل النازيون. لاحظت؟ فهمت؟ فهمت؟ متأكد؟ "الحل النهائي" هو إبادة اليهود إبادة شاملة تامة. فهمت؟ فهمت؟ فهمت؟)
ومن شدة عدم ثقة إكو في ذكاء قارئه، فإنّه يشرح له "موعظة" القصة، وكيف أن سيمونيني هو الشخصية الوحيدة الخيالية في القصة، لكنّه حقيقي لأنّه يمثل الذين صنعوا المؤامرة، وأمثاله لا يزالون يعيشون بيننا، فتأمل أيها القارئ واتعظ! ويُضيف على ذلك جدولاً للقصة والحبكة، للقارئ غير الفطِن.
ولأنّه يثق في أن القارئ غير فطِن، فإنّه يحاول اللعب عليه بحيلةٍ لا فائدة لها في السرد فيخلط القس دلّا بيكولاّ مع النقيب سيمونيني مع شخصية الراوي، مع أنّه من الواضح أن من يكتب شخصٌ واحدٌ، والمشهد الرئيسي الذي يُفترض به أن يكشف للقارئ كيف صار دلّا بيكولّا وكيف صار سيمونيني مشهدٌ في غاية السُخف والدناءة حتى إن القارئ يشعر بإهانة. إكو يُريد أن يوضح للقارئ تمام التوضيح بأن سيمونيني عنصري، وهذا ما يعرفه القارئ من البداية، وأن العنصرية سيئة وتؤدي للجريمة، وهذا أمرٌ لم يكن يحتاج إلى المشهد البذيء والقميء الذي قدمه. كذلك، مسألة الأب بولان كُلها لم يكن لها علاقة مباشرة بالرواية.
يقودنا هذا إلى شخصية ديانا فوغن، يقول إكو على لسان سيمونيني وأصدقائه الأشرار إنّه لا توجد رواية جيدة ليس فيها شخصية نسائية، ويقدم لنا إكو ديانا فوغن. شخصيات إكو النسائية كانت دوماً شخصياتٍ هزيلة مكتوبة بطريقة سيئة، لكن ديانا فوغن شخصية سيئة إلى درجة أن الشخصية التي تؤديها إيفا غرين في مسلسل Penny Dreadful الرديء - ويبدو أنها مستوحاه منها، أو من trope المرأة الهستيرية القديسة/الخاطئة بشكلٍ عام - أفضل منها، وأعمق، وذات فاعلية في السرد. وجاء "اكتشاف حقيقة" فوغن في السرد مُهيناً وسخيفاً على السواء.
بهذه الرواية، يُعمِد أمبرتو إكو بوصفه بطريارك كُل الكُتاب البطرياركيين الرديئين في العالم، من دان براون وباولو كويلهو ومن لفَ لفَهما غرباً إلى علاء الأسواني ومن لفَ لفَه شرقاً.