"لا أتذكر في شبابي أنني اشتكيت من الحياة "، الناس الذين عاش بينهم " مكسيم جوركي" أحبوا جدًا أن يتذمروا من الحياة لكنه لاحظ ذلك، أنهم يفعلون هذا من خبثهم،جاء جوركي في وقت يعد من أكثر فتراتها بؤسًا ،كان المرءفيها يتألم منذ طفولته وفي سن النضج، يتألم من فقدان المحاكمة ومن نير الأتوقراطية ، من سير الدنيا الفاسدة على وتيرة واحدة ،تمتص فيها البرجوزاية دماء الفقراء، تتراقص على أجسادهم ،يستمر معهم الألم حتى الشيخوخة وهم لا زالوا يعانون من الموت المحتوم، يقول : أجل أيها الرفاق لقد عانيت كثيرًا الرعب في هذه الحياة القاسية، ووصل بي الأمر أنني حاولت الانتحار، ولكن بعد مرور أعوام عديدة ، عندما أتذكر تلك السخافة، أحتقر نفسي، وأشعر بالعار يحرقني، ولقد تخلصت من هذا الرعب، بعدما فهمت أن الناس ليسوا أشرارًا بهذا القدر، وأن الذي يخيفني ليسوا هم وليست الحياة ، بل كان مصدر خوفي هو جهلي ووقوفي أعزل بدون سلاح أمام هذه الحياة ..
دائمًا ما أحب السير الذاتة التي يكتبها أصحابها بأنفسهم ، لأني أدرك تمامًا أن غيرهم مهما حاولوا أن ينقلوا لك حياتهم فلن يستطيعوا أن يضيفوا لك شيئًا جديدُا سوى القشور والرتوش السطحية لتلك الشخصيات ، أما عندما يكتبها الشخص بنفسه فإنه يحول لك الكلمات إلى شخوص حية، ستشعر بنفس الشعر الذي كان يختلج في نفسيته في الموقف المواقف المؤلمة التي يحكيها ، ربما ينقله لك غيره ، لكن يعجزون أن يصفوا لك تلك الحالة والأهم أن ينقلوها لك كما هي دون بهرجة أو إضافات تخل بجوهرها .
في هذا الكتاب " مكسيم جوركي " لا يتحدث عن معاناته في الحياة التي أعطته ظهرها من أول يوم، وتركته أعزلاً خاليًا من أي سلاح ولم تعطه حتى حق التذمر أو الاعتراض، لكنه أيضًا، يقول لمن أراد أن يكون كاتبًا ناجحًا أن يكدح في تلك الحياة ، وهي ذات النصيحة التي قالها " خيري شلبي " ، لأن الكتابات عندما تخرج مغموسة بدم الحياة، تصهرها وتصقلها التجارب الشخصية، تخرج صادقة ومعبرة، وتحيل تلك المواقف المؤلمة لتي عانها الشخص إلى لحظات من النشوة المفرطة تتجلى فيها فرحة الانتصار على اللحظات في معركة الحياة .
كما يحاول أن ينقل رحلته في القراءة ، وفيه يقدم تقريرًا مفصلاً عن مراحل قراءته ، بداية من الأدب الروسي والأدب الفرنسي ، الذي اعتبره عاملاً مؤثرًا في شخصيته، مثل بلزاك وفلوبير وستندال، ويحكي أن تلك القصص التي كان يقرأها كان لا يجعلها حبيسة عقلهولا يتركها تقف عنده ولا تكون علاقته بها علاقة القارئ فحسب ، بل إنه كان يحكيها لكل من يراه ، يحكيها للعمال والأطفال، ويضيف عليها جوانب من خياله . " مسكيم جروكي " عندما كتب عن الفقراء وعمال طبقة البروليتاريا، فإنه لم يكتب عنهم بواقع السمع، لأنه في الحقيقة جاء من بينهم، ذاق مرارة الفقر مثلهم ، " وكنت أعاني من نوبات ثرثرة في الكلام عن الأدب وذلك من رغبتي في التحدث عن كل ما يزعجني ويفرحني أردت الكلام من أجل أن أفرغ شحناتي "
أحدهم سأله " لماذا كتبت عن المتشردين " ، فأجابه : بسبب العيش وسط الطبقة البرجوازية الصغيرة ، حيث لا ترى أمامك إلا الغش والاحتيال، ومص دم الإنسان من أجل الكوبيك ، لذا بدا المتشردون بالنسبة لي " أناسًا غير عاديين " ، وغير العادي بالنسبة لهم ، انهم منفصلون عن طبقتهم، نابذون لها فاقدون لصفات طبقتهم المميزة .كما يحتوي الكتاب أيضًا بعض المقالات الأخرى ، يتحدث فيها عن الواقعية الاشتراكية، وعن " بلزاك" أحد أهم الشخصيات تاثيرًا فيه ، ويتحدث عن الفن في ظل القهر الذي تمارسه البرجوازية على البروليتاريا ، وانتشار النفعية التي تحلل سحق الطبقات الفقيرة كي تكمل مسيرتها الحضارية مخلفة وراءها آلاف الجثث التي تحاول أن تبقى حية ، وطوق النجاة بالنسبة لهم أن يكتبوا عن أنفسهم وللقادمين من بعدهم ، وهذا ما فعله " مكسيم جوركي" .