المعرفة تصبح لا شيء
بالرغم مما يتمتع به الأدب المعاصر من إبداعات هائلة، والذي يُفترض أن نتناوله بالحديث أو على أقل تقدير بالإشارة إليه، إلا أن تلك المعاصرة تعاني من أزمة جانبية في معنى الأدب، وهي قدرته الفائقة (الأدب المعاصر) أن يكون لصيقاً بالواقع السياسي والاجتماعي إلى درجة يتحول فيها من مهمة التشريح الأخلاقي للإنسان إلى آلة نقدية لوقائعه السياسية، مما يجعله نسبياً متخندقاً في اتجاه ايديولوجي، مدافعاً عن رأي يراه صواباً. ربما يكون هذا جزء من عالم الأدب، لكن في جزء ثانٍ هناك ذلك النوع الذي يُغرّد نهائياً خارج السرب النقدي (السياسي والاجتماعي) . ذلك الأدب يشبه تماماً آلة دموية تضع عقل القارئ في ملزمة حديدية وتعتصره حتى ينتفض إما حياً أو ميتاً، ذلك النوع من الأدب الذي يشير إلى القارئ بإصبع اتهام أنه ليس بريئاً مما وصل إليه الإنسان من شناعة.
في هذه الرواية نحن أمام قصة بسيطة بسردها، رتيبة بأحداثها البطيئة، مملة بمسافات الصمت فيها. ويمكن لأي قارئ أن يُنهيها بليلة واحدة، لكن هناك شيء ما غامض يخز إحساسك اللامرئي في هذا الكتاب. ما هو الغريب والغامض ذاك ؟.
تبدأ القصة منذ اللحظة الاولى بذلك الرجل الذي يدخل إلى قاعة استقبال في فندق تقليدي. يطلب غرفة للأجار. يصعد. يضع أشياءه على السرير. يرتبها. ولا شيء آخر لديه ليفعله. لكن هناك أصوات تأتي من خلف الجدار. خلف جدار غرفته يوجد غرفة أخرى. هناك بشر آخرون إذاً. يوجد ثقب صغير في جدار غرفته يستطيع من خلاله مراقبة الآخرين. يدفعه الفضول. يحيا في الظلام. يريد المعرفة. يصبح تدريجياً مهووساً بمعرفة ما يجري في الغرفة الأخرى. من أولئك البشر ؟ ما الذي أتى بهم إلى هنا ؟ ما ظروفهم ؟ ومن أي أمكنة جاؤوا ؟. تتجذر رغبة اللهو في ذلك الشخص. يعشق استراق السمع إلى أحاديثهم، ورؤية أجزاء من اجسادهم وهي تتحرك. ماذا يأكلون، ماذا يشربون، ماذا يفعلون، وكيف يفكرون !!.كيف يعيشون حيواتهم وكأنّ لا أحد يعلم بوجودهم. لكن تدريجياً يبدأ الرجل بالإحساس أنه يرى أبشع صور الإنسان، يكتشف الأسرار المخفية في ذات كل شخص، يسمع أنفاسهم ويشاهد وجوههم بحالات رعبها وشبقها وفرحها وحزنها وألمها. تلك اللحظات التي لم يشاهدها على الإطلاق في وجوه الناس عندما يكون حاضراً. أيمكن إلى تلك الدرجة أن البشر يخشون أنفسهم والآخرين حتى لا نستطيع معرفتهم عندما نراهم ؟. كيف يمكن ان نظهر بحقيقة مغايرة لحقيقتنا الداخلية ؟.
إن ذلك الرجل والذي لم يطلق عليه (هنري باربوس) أي اسم - فقد تركنا نتعامل مع شخص بلا هوية - أصبح يعيش جحيماً تدريجياً. إحساسه العميق بالمعرفة .. أجل إن الجحيم هي لحظة الإدراك انك قد ابتدأت تمتلك المعرفة. س (كتعبير عن اسمه المجهول) رجل بدأت حياته في الغرفة، في داخل الظلام، ليتحول إلى كائن لا منتمي لمعنى المجتمع. إحساس بالاغتراب اتجاه كل ما خبره وعرفته في حياته. الناس عندما يصبحون مجردين كبشر طبيعيين بلا زيف أو مواربة أو اختفاء وراء أقنعة واهية، يصبحون الحقيقة بمعناها الإنساني العميق، وآنئذ تكمن لعنة معرفتنا بهم.
في لمس البشر، الأشياء ترتدي طريقاً بطيئاً ومثيراً للقلق.
كيف وصل س إلى ذلك الحد من الإدراك، إنه الخفاء والظلام الذي يحميه. عندما تلمس إنساناً فإنك لن تفكر بأبعد من ذلك، اللمس طريق معرفي واهم أنك تعلم كل شيء. لكن في غرفة س رؤى أخرى. هناك يعلم دون أن يقترب. تُبنى تدريجياً رؤاه اتجاه كل معرفة سابقة، ويكتشف انه لم يكن يعلم شيئاً. كان عبارة عن آلة مثل الجميع، يظن العمقبنفسه، لكنه في أصله الوجودي يحمل بذرة اللانتماء والعدم لمعنى الحياة، مثل جميع الذين يراقبهم، بهمومهم ومشاكلهم وهوسهم وترهاتهم.
تتكاثر شخوص الغرفة الأخرى، وفي كل مرة يزداد فهمه لمعنى وجوده ولكن بطريقة مختلفة عما يدركه الجميع.
كان انتحار. الآخرون قتلوا أنفسهم بمسدس أو سم، أما أنا فقد قتلت نفسي بدقائق وساعات.
س يدرك أنه لم يختلف في معنى نهايته عن البشر الذين يراقبهم لكن انتحاره المجازي ليس سوى صورة لهزيمة المعرفة بداخله. لقد بدأ يشعر بإنسانيته وإنسانية الآخرين. بدأ الأمر كلهو خفيف وازداد هوساً وتعلقاً، وأرتقى ليصبح بحثاً عن المعرفة، أو للدقة تشريح نفسه امام الصورة الصادقة للبشر. الآخرون الذين لا يرونه شرّحوا روحه، جردوه من معناه الاجتماعي ليضعوه دون إرادة منهم في موقف العدم من الحياة والأفكار والذل البشري.
مجموعة من القصص والشخوص تمر وتذهب و س يراقب بصمت ويفكر. أي قدرة يمكن ان تنتزع الإنسان وتجبره على البكاء في لحظة ضعف، بكاء من نوع مختلف كلياً. بكاء من اجل الجمال.
الآن لا أعرف كيف أموت.
تلك العبارة التي دخلت عمق س لأن أحد المنازعين وهو على فراش الموت، قد بدأت امرأة بالتعري أمامه دون قدرته على لمسها. قال ذلك وهو يبكي، ذلك المنازع الذي فقد كبرياؤه في لحظة جمال، جعل س يقفد نفسه للأبد.
س شاهد كل شيء في الغرفة الأخرى .. الزواج والموت والسحاق والخيانة والجنس والسرقة والعهر والحب .. لقد رأى أبعد مما ينبغي، أكثر مما ينبغي. إن معرفة س جعلته عدماً أبدياً وشخصاً لا ينتمي لعالمنا ولن ينتمي يوماً.
إنّ الجحيم لهنري باربوس قد يكون عملاً ركيكاً بالنسبة لقراء الأدب المعاصر، لكنه عمل يحتفل بكل قيمة فكرية مستقلة للإنسان، إن فهم ذات الإنسان أولاً هي ما ستحقق العدالة يوماً.