قد يتهمني البعض بأنني من المنحازين لمالك بن نبي وهي تهمة لن أنفيها بل سأزيد عليها أنني أعتبر مالك بن نبي بالإضافة ال معلمي علي عزت بيجوفيتش وعبدالوهاب المسيري من المفكرين المسلمين المعاصرين الذين أسهموا في إعادة إحياء الفكر والنهضة الإسلامية لإعادتها الى مكانها الصحيح منذ بدأها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا لكنها كباقي المحاولات للأسف قوبلت بشعوب عربية ذات فكر ليس مستعمَر فحسب بل كما يصوغها مالك بن نبي شعوب تمتلك جميع مقومات القابلية للإستعمار والتي تركت العالم العربي والإسلامي ككل في وضع الذي ما زال يلهث وراء الغرب لتحصيل شبه حضارة وحداثة مشوهة أغفلت ارتباطها بماضيها الإسلامي العريق فغدت كنبتة انفصلت جذورها من الأرض وان بقيت لبعض الوقت على قيد الحياة لوجود الشمس والهواء الى أن نهايتها محكومة بالفناء لانفصالها عن أصالتها وتربتها التي تمدها بجميع مقومات الاستمرارية والبقاء.
وإن كان في هذا الكتاب استكمال لما بدأ بالتأصيل له في كتابه شروط النهضة نجد أن التركيز هنا على عالم الأفكار ودوره في بناء الحضارة بشكل عام وكيف أنفصل العالم الإسلامي عن جذوره وأفكاره وسار خلف عالم الأشخاص بالأساس وعالم الأشياء منذ عصر ما بعد الموحدين. سأحاول أن ألخص الأفكار الرئيسية التي وردت في الكتاب وان كان ما كتبه مالك بن نبي منذ ما يقارب ال44 عاماً ما زلنا نجده في واقعنا الى الآن وكأن الزمن قد توقف بنا منذ قرون وبدل أن تدور عجلة الحياة الى الأمام يبدو لي أنها ضلت الطريق بل استكملته الى الوراء.
يحدثنا مالك بن نبي بادئ ذي بدئ عن التوجهات الفكرية للإنسان في البيئة المنعزلة (الوحدة) والتي تتوجه اما:
1. الى الأرض (أو عالم الأشياء) والذي يتمثل بثقافة ذات جذور مادية وتقنية.
2. الى السماء (عالم الأفكار) والذي يتمثل بثقافة ذات جذور أخلاقية وغيبية.
وإن نظرنا الى العالمين الغربي والإسلامي سنجد أن الغرب وكما جاء في قصة روبنسون كروزو تغلب على وحدته (عزلته) بالعمل أي أن عالم الأشياء كان هو المسيطر في حين نجد أن العالم الإسلامي وكما جاء في قصة حي بن يقظان قد تغلب على وحدته ببناء الأفكار ابتداءاً من فكرة الروح (نفوق الغزالة) ومتدرجاً حتى يصل الى فكرة الإله. وبناءاً على هذا ولو نظرنا الى الطفل الذي تشبه محاولات اندماجه مع محيطه بالخروج من هذه العزلة تبدأ بعالم الأشياء (التي يبدأ باكتشافها بيديه) ثم عالم الأشخاص (وهي الدائرة المحيطة به من الأسرة والمدرسة) ثم عالم الأفكار الذي تبدأ بالتمايز بين الأفراد داخل المجتمع.
وبعد التأصيل لهذه العوالم الثلاث نبدأ بنقل هذه الفكرة من الفرد الى المجتمع الإسلامي فنجد المجتمعات تنقسم زمنياً الى:
1- مجتمع ما قبل التحضر: وهو يتمركز حول الأشياء متمثلاً بالأصنام والأوثان في الجاهلية.
2- المجتمع المتحضر: ويتمركز حول الأفكار عندما جاء الإسلام وأنتج لنا جيل المهاجرين والأنصار.
3- المجتمع بعد المتحضر: ويتمركز حول الأشخاص (وهو ما نعانيه الآن منذ عصر ما بعد الموحدين) فينتشر المتصوفون والدجالون والزعيم الصنم
وان كان عالم الأشياء في هذه المرحلة ليست أوثاناً لكنها تأخذ شكلاً استهلاكياً خالٍ من أي فكر.
ثم ينتقل بنا الحديث الى علاقة الأفكار بالحضارة فيعرف الحضارة بأنها نتاج فكرة جوهرية تدفع بها في التاريخ وهي نتاج ثقافي فريد تارة ومجموعة العوامل المعنوية والمادية التي تنتج لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره تارة أخرى. وبناءاً على تقسيمات المجتمع أعلاه نجد أن التطور الحضاري أيضاً كما جاء في كتابه شروط النهضة يقسم الى:
1- ما قبل الحضارة: الجاهلية وكيف أن الروح (صرخة بلال أحد أحد) كانت هي لحظة أرخميدس التي كانت المحرك الأساسي للانتقال الى الطور الثاني.
2- الحضارة: وهنا يكون العقل هو المحرك الرئيسي والفاعل والذي تميزت به الحضارة الاسلامية.
3- ما بعد الحضارة: حيث سيطرت الغريزة على المجتمع والذي تمثل لعصر ما بعد الموحدين.
وهنا يدخل مالك بن نبي عامل أسماه الطاقة الحيوية والتي تساعد فيها الأفراد على الاندماج في مراحل التطور هذه فيرى أن الاسلام قد طوع الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي والذي سيطرت عليه العصبية القبلية والشرف نحو مجتمع اسلامي متحضر. لكن هل تكفي هذه الطاقة الحيوية على نقل الحضارة الغربية مثلاً الى العالم الإسلامي؟ هنا يطرح لنا مالك بن نبي مشكلة الخمر وكيفية محاربة الإسلام لها بالتدريج مقارنة مع محاولات المجتمع الأمريكي حلها بالتدرج بسن القوانين لمنعها والتي انتهت بالنهاية بثورة الشعب ضدها والغاء قانون التحريم هذا. ان فشل التطبيق في حل هذه المشكلة يعود الى:
- قدرة أي فكرة للتكيف ليست متساوية بين مجتمعات ذات ثقافة مختلفة (أشياء – أفكار وقيم).
- قدرة المجتمع الواحد للتكيف من مرحلة الى أخرى تختلف (حسب مكانة الأشياء في هذا المجتمع).
نعود الى الأفكار وأين نجد مكانها في الحضارة: المجتمع الناشئ يحاول أن يجد له سند في القيم المقدسة فنجد أن الأفكار الرائدة ما قبل التحضر تبدأ بالأخلاق وتتدرج شيئاً فشيئاً حتى تصبح الأفكار العملية أو التقنية هي المسيطر (ما زالت الحضارة هنا تتوجه نحو الأشخاص "الانسان" لأن الانسان هو من يمر بأطوار التغير) وحين تنتقل هذه الأفكار بالكلية نحو عالم الأشياء تبدأ مرحلة ما بعد التحضر. وان أي انعدام هنا في التماسك في عالم الأفكار يولد ما أسماه مالك بن نبي الاستعمار والقابلية للاستعمار. وفي هذا العالم علينا أن ندرك طغيان عالم الأشياء على كل شيء سواء من ناحية نفسية وأخلاقية أو على الصعيد الفكري والإجتماعي حيث تطغى الأشياء من ناحية الكمية على النوعية ومن ناحية سياسية تتمثل بطغيان عالم الأشخاص حيث تبدأ الأخلاق بالانحصار بأشخاص محددين فتبدأ الأفكار تتجسد بالزعيم الصنم.
وحتى تتحرر المجتمعات الاسلامية من مرحلة ما بعد التحضر التي تمر بها عليها أن تعود الى أفكارها الأصيلة ذات الفعالية. فالفكرة الأصيلة بحد ذاتها لا تعني أنها فاعلة دائماً والفكرة الفاعلة لا تعني أنها صحيحة دائماً فعلينا في هذه المرحلة العودة الى روح الاسلام المتمثل بالمنهج النبوي الذي ما فتئنا نراه بجميع مراحل حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث حرر الفكر الاسلامي من القدسية المطلقة والاكتفاء الذاتي الذي أشبعناها بها وأعلى من فضيلة الفعالية الى جانبها.
وأنهى مالك بن نبي حديثه عن الثورة وهو فصل وجدت أنه واقعي جداً الى درجة نلمسها الى الآن بشكل حي ومباشر وأشار أن السبب الرئيسي في فشل الثورات هو الإعتماد دوماً على عالم الأشخاص والأشياء وإهمال الأفكار فتجد الرجل مستعد أن يضحي بحياته من أجل رموزه لكنه لا يعرف لماذا وبالحديث عن الأفكار الميتة والمميتة. فالأفكار الميتة هي نتاج إرثنا الثقافي الذي ولّد القابلية الى الاستعمار في نفوسنا والأفكار المميتة والتي لا نفتأ نبحث عنها في الحضارة الغربية (التي تولّد الاستعمار) والتي وضحها في حديثه السابق عن كيفية إستحالة استيراد حضارة بكاملها الى العالم الاسلامي لاختلاف الموروث الثقافي والحضاري وكيف أن هذه الأفكار المخذولة والمتمثلة بالفكرتين تعود لتنتقم منا نحن الذين انفصلنا عن أصولنا ومثلنا العليا وتعلقنا بأفكار فقدت فعاليتها وأصالتها عندما تم استيرادها من حيزها الثقافي الأصلي.